ضجّة بين احمد والمسيح في الولايات المتحدة: رأي واجتهاد
صادق جلال العظم 17 November 2010

 

في 28 آب (اغسطس) 2010 تظاهر حشد كبير من اليمين الامريكي والمحافظين الجدد وأنصار ما يسمى خطأ في الصحافة العربية بـ”حزب الشاي”(*) (Tea Party USA) عند النصب التذكاري للرئيس الامريكي أبراهام لينكولن في العاصمة الامريكية منادين بـ”استعادة الكرامة الامريكية” المهدورة وبما شابه ذلك من شعارات ومطالب. والمفهوم في هذا السياق أن الذي هدر تلك الكرامة هو انتخاب رئيس أسود للبلاد للمرة الاولى في تاريخها، رئيس أسود من أبٍ مسلم يحمل اسمه الثلاثي علامة فارقة جداً هي الاسم العربي: حسين.

تعمّد اصحاب المظاهرة “البيضاء” هذه، التحشد عند النصب التذكاري للرئيس لنكولن في يوم محدد هو 28 آب (أغسطس) لأن القائد الاسود الفز لحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، مارتن لوثركينغ (Martin Luther King)، كان قد ألقى خطابه الشهير “لديّ حُلُم” (I Have a Dream) عند النصب التذكاري إياه في يوم 28 آب (أغسطس) قبل 47 سنة بالتمام والكمال. إنه الخطاب الذي أطلق الحركة الاجتماعية – السياسية التحررية الكبيرة التي فكّكت نظام التفرقة العنصرية في البلاد وأطاحت بـ”الأبارتايد” الامريكي كما كان معمولاً به في تلك الاوقات.

سارَعَتْ التيارات الليبرالية الامريكية ومنظمات الحقوق المدنية، وهيئات الدفاع عن حقوق الانسان والاقليات، والقوى المدافعة عن المساواة أمام القانون وغيرها في المجتمع الامريكي الى رفع الصوت عالياً في استنكار ما قامت به المظاهرة اليمينية “البيضاء” وفي إدانة الاستفزاز الفظيع الذي شكلته لباقي المجتمع الامريكي عموماً ولأفضل ما تحقق فيه من مُثل وقيم تحديداً.

في الواقع، اعتبرت هذه القوى والتنظيمات والهيئات والتيارات أن التكتيكات التي لجأ اليها اصحاب المظاهرة “البيضاء” والشعارات التي رفعوها والمكان الذي حدّدوه لتجمعهم في العاصمة الأمريكية واليوم الذي اختاروه لإلقاء خطاباتهم وعرض مطالبهم هناك، تشكّل كلها استفزازات شنيعة واهانات متعمّدة عن سابق تصميم وإصرار ليس لكل ما في الليبرالية الامريكية الكلاسيكية من مثل وقيم فحسب، بل ولكل ما أنجزه المجتمع الامريكي في نصف قرن من تقدم على صعيد القضاء على نظام التفرقة العنصرية الموروث وتصفية تركة “الأبارتايد” الوطني المعهود.

هنا، سألت نفسي: ألا ينطبق منطق الاستفزاز والاهانة ذاته على مشروع بناء المركز الاسلامي والمسجد بالقرب من “البقعة رقم صفر” (جراوند زيرو) في مدينة نيويورك؟ لا أريد الاجابة على السؤال بصورة تبسيطية اذ من الواضح أن النيّة وراء المشروع هي المصالحة والتسوية والصفح المتبادل وليس مجرّد التعسف في استخدام الحق العام لأية مجموعة من المواطنين في بناء مركز لها ودار لعباداتها حيثما تشاء ضمن حدود القواعد والانظمة المرعية؛ أو التعسف في استخدام الحق الدستوري الآخر في حرية العبادة والمعتقد الديني وحرية التعبير السلمي عن النفس في اي مكان مهما كان على الارض الامريكية وذلك بالاصرار الاعتباطي على حق انشاء المركز والمسجد في حرم “البقعة رقم صفر” مهما كانت الظروف والشروط والنتائج والحساسيات.

في المقابل، لم يتكتم اصحاب المظاهرة “البيضاء” على تعسفهم في استخدام الحق الدستوري العام في التجمع والتحشد والتظاهر والتعبير عن الرأي والنفس من أجل استفزاز كل من يحمل خطاب مارتن لوثر كينغ ومفاعيله العملية على محمل الجدّ، وإهانة كل من ينتمي الى النقلة النوعية الكبيرة التي أطلقها ذلك الخطاب في الحياة الامريكية ويلتزم بإنجازاتها ومكتسباتها.

في اعتقادي كذلك، يشكو مشروع بناء المركز الاسلامي والمسجد على مقربة من “البقعة رقم صفر”، في أحسن أحواله، من سوء التقدير والتدبر من جانب أصحابه ومؤيديه ومن نقص كبير في أصول اللباقة وحسن التصرف المطلوبة كلها في اللحظات الحرجة والدقيقة مثل لحظة 11 سبتمبر (ايلول) 2001 وآثارها السلبية العميقة في حياة الاقليات العربية والاسلامية في المجتمعات الاوروبية عموماً وفي المجتمع الامريكي تحديداً. كما ينطوي المشروع، في نظري، على استهتار كبير بالآخر وظروفه وشروطه وبحساسيات “العيش المشترك” معه وآليات هذا العيش وضروراته. هذا كله في الوقت الذي تتذمر فيه هذه الاقليات أشدّ التذمر من استهتار الآخرين بها وبظروفها
وشروطها ومن الانتهاك الفظ لحساسيات العيش المشترك معها وآلياته وضروراته!؟

أما في أسوأ أحواله، فإن المشروع يُعرِّض نفسه وأصحابه ومؤيديه للاتهام بالاستفزاز المجاني المتعمَّد للفريق الآخر المنكوب بهجمات 11 سبتمبر (أيلول)؛ وبالتعسف في استخدام الحقوق الدستورية العامة في انشاء المراكز الخاصة وبناء دور العبادة والتمتع بحرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية المعتقد الديني؛ وبسوء النية والنفاق بالنسبة للغاية الحقيقية الكامنة وراء المشروع. ولا يمكن لهذا كله إلاّ أن يلحق الضرر البالغ بالاقليات العربية والمسلمة وبصورتها ومصالحها ومجرى حياتها اليومية خاصة في بلد مثل الولايات المتحدة، أي بلد ظاهرة الـBacklash (ردود الفعل الارتجاعية الهوجاء في المجتمع) بامتياز. لهذا اعتقد بحكمة نقل مشروع بناء المركز الاسلامي والمسجد الى موقع اكثر ملائمة في مدينة نيويورك مما من شأنه أن يقطع كل شك في حسن نوايا أصحاب المشروع وفي شرعية غايتهم وجدية مصداقيتهم.

على أية حال، نعرف الآن أن أصحاب المشروع ومؤيديه قاموا بتقديم سلسلة من التنازلات لإرضاء الطرف الآخر المعترض مما أفقد المشروع معانيه ومغازيه الاصلية. على سبيل المثال، وافقوا على تبديل اسم المركز من “بيت قرطبة”، بما يحمله من معانٍ رمزية وتاريخية واسلامية، الى “بارك 51” (Park 51) وهو الاسم الذي لا يوحي بشيء لأنه مجرّد اسم شارع من شوارع مدينة نيويورك وعنوان بريدي عادي لا اكثر. كما أنكروا أنهم يريدون بناء مسجد اصلاً مؤكدين لمن يهمهم الامر أن المركز لن يتميز في مظهره الخارجي بأية علامات تدلّ على أنه مركز اسلامي من اي نوع. بعبارة اخرى، لن تكون هناك مآذن ولن يتزيّن البناء من الخارج بأية مظاهر معمارية او زخرفية تدلّ على ائتمانه الى الاسلام والمسلمين. علمت كذلك أن رجل الاعمال السعودي والمستثمر العولمي الشهير الامير الوليد بن طلال نصح هو ايضاً اصحاب المشروع، وبصورة علنية، بإبعاده عن حرم “البقعة رقم صفر”. لذلك كله يبقى من الافضل نقل موقع المركز والمسجد معه الى موقع آخر في المدينة حيث لا حاجة الى تمويه منظره ووظيفته والتستر على هويته الحقيقية بهذه الطريقة السخيفة والمهينة.

بالاضافة الى ذلك، من المفيد لأصحاب المشروع ولمؤيديهم ومناصريهم أن يتذكروا جيداً، في خضمّ هذه الضجة وتداعياتها، أنه ليس لدى “عمقهم الاستراتيجي” المفترض والمؤلف من العالمين العربي والاسلامي أي نموذج رسمي او شعبي مقبول او مفيد ليقدمه لهم او لغيرهم على صعيد احترام الحريات العامة والحقوق الدستورية الناجزة وبخاصة تلك الحقوق والحريات المتعلقة بالمعتقد الديني وممارسة غير المسلمين لطقوسهم وشعائرهم وعباداتهم براحة واطمئنان بالاضافة الى حرية بناء دور العبادة والمراكز الدينية من جانب اصحاب اديان العالم الاخرى.

أطلّت ظاهرة الـBacklash الامريكية برأسها هذه المرة في شكل تهديد خبيث وحقير بإحراق نسخ من القرآن بطريقة طقوسية مشهدية عامة بمناسبة إحياء ذكرى ضحايا هجمات يوم 11 سبتمبر (ايلول) 2001 وهي الهجمات التي تمت، كما هو معروف، باسم الاسلام وتحت راية الجهاد الاسلامي العالمي. ولننتبه هنا الى أن التهديد الذي أطلقه القسيس الانجيلي من ولاية فلوريدا والصخب المحلي والدولي الذي آثاره على اعلى المستويات، جاء ليذكّر اصحاب مشروع المركز الاسلامي ومن معهم ووراءهم بأن حشداً كبيراً من الاقلية المسلمة في مدينة برادفورد في بريطانيا هو المسؤول عن اعادة احياء الطقوس القروسطية لاحراق الكتب عندما قام ذلك الحشد بإضرام النار سنة 1989 برواية سلمان رشدي “الآيات الشيطانية” في الساحة العامة للمدينة وبأسلوب طقوسي – مشهدي رآه العالم بأجمعه عبر البث الحيّ للمشهد المقزز والمؤذي.

يحيل تهديد القسيس الانجيلي كذلك الى فعل شنيع آخر تمثل في قيام الحكومة الاسلامية الطالبانية في شهر آذار (مارس) 2001 بتدمير التمثالين التاريخيين الضخمين للبوذا في منطقة باميان في أفغانستان باسم الاسلام الذي يحطم الاصنام أينما كانت ومهما كانت. وللاسف لم يرتفع يومها في العالمين العربي والاسلامي أي صوت مهم شخصياً أو معنوياً او مؤسّساتياً او علمائياً يدين علناً وبوضوح وبلا مواربة أو غمغة هذا الاعتداء المجاني العنيف على مقدسات الاديان الاخرى في عالمنا المعاصر.

في تسعينيات القرن الفائت كانت واحدة من أبرز التُّهم الموجهة الى رواية “الآيات الشيطانية” هي الاساءة العميقة الى مشاعر ومعتقدات مليار ونصف مليار مسلم في العالم. ولا شك في أن أية عملية احراق مشهدي اليوم لنسخ من القرآن ستشكل اساءة فظيعة لمسلمي العالم أينما كانوا ومهما كانوا. مع ذلك، عندما نسفت حكومة طالبان الاسلامية تمثالي البوذا في باميان بالديناميت لم نسمع اية اصوات ذات وزن وشأن في العالمين العربي والاسلامي ترتفع لتستنكر هذه الاساءة العميقة لمشاعر ومعتقدات ملياري بوذي وهندوسي في العالم، أو لتقول شيئاً عن الاهمية التاريخية والآثارية أو القيمة الفنية والجمالية أو الشأن الديني والمعنوي الكبير للتمثالين المنسوفين إن كان ذلك بالنسبة لتراث الانسانية بشكل عام او بالنسبة للمؤمنين بدين عالمي – تاريخي آخر، بشكل خاص.

اخيراً، واضح أن قادة الاقليات العربية والاسلامية ونشطائهم في الولايات المتحدة وغيرها لا يقصِّرون هم ايضاً في استخدام (وسوء استخدام) المعايير المزدوجة والمثلثة والمربعة والاستنسابية والتعسفية حين يحلو لهم ذلك على الرغم من أنهم لا يكلّون ولا يملّون، صبحاً مساءاً، من إتهام مجتمعات الغرب عموماً والمجتمع الامريكي تحديداً بازدواجية المعايير في التعامل معهم ومع جماعاتهم!؟ ولا ينفع في هذا المقام الاعتداد بالموقف الاسلامي التقليدي المُنزَّه للذات عن مثل هذه الافعال والمتشاوف على الآخرين باعتبار أنهم هم وحدهم الذين يرتكبونها.

لذا يستحسن بأن تلتفت الاقليات العربية والمسلمة في الولايات المتحدة وغيرها جدياً الى الحكمة العربية الشعبية الشائعة والقائلة: “من كان بيته من زجاج لا يرمِ الناس بالحجارة”.

 

بيروت، لبنان

 

SUPPORT OUR WORK

 

Please consider giving a tax-free donation to Reset this year

Any amount will help show your support for our activities

In Europe and elsewhere
(Reset DOC)


In the US
(Reset Dialogues)


x