الذاكرة الجماعية العربية بين الانتقام والعدالة والمصالحة
ابراهيم الكبلي 7 September 2011

صار نوعا من التقليد أن نرى الجلادين يصيرون ثوارا وينغسلون من كل أدران الماضي الذي شاركوا في تشكليه بكل مساوئه لمجرد أنهم غيروا الولاء بين ليلة وضحاها وأرسلوا بيانا مسجلا أو نقل عنهم أنهم ثابوا وأصلحوا وانحازوا إلى جانب الشعب. هذه السنة الخطيرة تحمل في طياتها الكثير من المخاطر على مستقبل الثورة في العالم العربي لأن الديكتاتور لا يكمن أن يستحيل ديمقراطيا. الجلاد جلاد، ومن خدم الديكتاتورية سيسعى حتما إلى تأسيس أخرى لأن الطبع يغلب على التطبع. هذا الكلام ضروري قبل مناقشة قضية الذاكرة العربية المشتركة وطبيعة إدارة المرحلة اللاحقة في مسلسل التغيير في البلاد العربية، خاصة بعد سقوط نظام القذافي، وبدء محاكمة حسني مبارك وما رافق هذين الحدثين من نزاعات اختلطت فيها الرغبة الصادقة في طي صفحة الماضي، عن طريق تفعيل دور الجهاز القضائي، باعتباره أسمى التعبيرات عن وجود الرغبة في الانتقال إلى دولة مدنية تحكمها القوانين، بنزوع إلى الانتقام والعنف اللفظي والمادي وغيرها من السلوكات المنحرفة التي قد تؤدي إلى تحريف الثورة عن مسارها الصحيح وتدخلها في متاهات ضيقة تقضي على كل الآمال الكبرى التي علقت عليها.

نقاش الذاكرة الجماعية طويل لأنه لا يتعلق بالماضي فقط ولكن بالحاضر أيضا. فالذاكرة تعتمد على التذكر، والتذكر عادة ما يكون لأشياء حدثت وانتهت في الماضي، ولكن المتذكر يُعْمِلُ هذه الملكة لأغراض متعددة تخدم مصلحته في الحاضر. لذلك يتميز الحديث عن الذاكرة الجماعية بالكثير من الحساسية لما ينشأ عنه من صراع عند الحديث عن التاريخ. فالخطاب السائد يستند على الذاكرة، ومن ينجح في فرض وجهة نظره حول الذاكرة، ينجح أيضا في فرض تصوره للتاريخ والأحداث وما يترتب عليها من عواقب على المستوى السياسي. أما وقد سقطت هيبة الأنظمة الديكتاتورية التي قمعت هذه الذاكرة لنصف قرن، فإن الشعوب العربية تجد نفسها اليوم أمام امتحان الذاكرة الجماعية وعلاقتها ببناء دولة الحق والقانون والمؤسسات، وجبر كل أشكال الضرر الفردي والجماعي الذي لحق بهذه المجتمعات نتيجة الممارسات القمعية للأنظمة البائدة. تحديد المسؤولية الرمزية والتاريخية عن كل الممارسات السلطوية البائدة جزء لا يتجزأ من الثورة ومن المصالحة الضروري تفعليها بين الشعوب العربية وماضيها، ليس بغرض النسيان ولكن من أجل التذكر ومنع تكرار نفس التجارب الأليمة. السؤال الآن، كيف نعالج إرث الذاكرة الجماعية للبلاد العربية بعد خروجها من نير الاستبداد والقمع؟ هل الانتقامات التي نسمع عنها بالجملة، في ليبيا خاصة، كافية لمصالحة الشعوب مع الماضي أم أن العدالة كفيلة بتحقيق هذه المصالحة بين الشعوب وماضيها؟

المراحل الانتقالية مراحل شديدة الحساسية في تاريخ كل الشعوب وما سمعناه وقرأناه ونقرأه وسوف نقرأه عن تصفية المعارضين السياسيين في ليبيا، وبروز نزعات انتقامية، شملت المتعاونين مع النظام السابق، ما هي إلا جزء لا يتجزأ من أشكال التعبير عن الغضب والعنف الكامن في نفوس أناس عاشوا لفترة طويلة في ظل نظام حكمهم بالحديد والنار لأربعة عقود. أما دعوة الكثير من الأصوات إلى إعدام الرئيس المصري المخلوع، فهو أيضا تعبير عن هذه الرغبة في القصاص من رجل ألحق بالمصريين الكثير من الأذى إبان حكمه الطويل. إلا أننا، في مقابل هذه الأصوات التي تدعو إلى الانتقام، سمعنا أصواتا أخرى تدعو إلى تفعيل دور العدالة. ليس بغرض الانتقام ولكن في سبيل إحقاق الحق وتفعيل جهاز القضاء المستقل والنزيه باعتباره الوسيلة الأكثر حضارية والأكثر تعبيرا عن الرغبة في الانتقال إلى نظام ديمقراطي يسود فيه القانون وتتحقق فيه العدالة. كما أن اللجوء إلى القضاء وتمكين المتهمين من حقهم في الدفاع عن النفس مناسبة لا تقدر بثمن لتمكين الشعب من معرفة حقيقة ما حدث خلال مرحلة حكم هؤلاء الناس في سبيل تصحيح التاريخ وإنعاش الذاكرة الوطنية وتطهيرها من الأكاذيب وكل أشكال الأراجيف التي وظفت لاختطافه الذاكرة الجماعية للشعوب العربية. فالقضاء هو الجهاز الوحيد المخول في النظر في ما ارتكبته الأنظمة السابقة من جرائم ضد شعوبها ويجب أن يتم تحقيق العدالة، لكل الضحايا، لأنها رسالة قوية لكل من يصل السلطة ويستخف بالشعب في المستقبل. لكن كما قلنا تبقى المصالحة ضرورية، بعد إعمال آلية العدالة، لأنه ليس من المعقول محاكمة كل الناس الذين تعاملوا مع النظام الديكتاتوري وانخرطوا في مؤسساته.

المصالحة لا تلغي العدالة ولكنها في نفس الوقت توقف الرغبة في الانتقام وتساعد على تجاوز منزلقات المراحل الانتقالية. ولنا ثلاثة نماذج مهمة في التاريخ الحديث في دول مختلفة حاولت أن تتصالح مع ماضيها السياسي الأليم وتوصلت إلى طي نهائي أو جزئي لملفات بدرجة كبيرة من الخطورة، في إطار من التوافق الوطني، وحفظ الذاكرة الجماعية وتوثيق جرائم الماضي حتى لا تتكرر. يمكن لهذه التجارب الثلاث أن تكون نموذجا يحتدى به، في الدول التي سقطت فيها الديكتاتورية في الوطن العربي، رغم النقائص التي تشوبها لأن الكثير من الضحايا يرون أنها غير كافية، إما بسبب عدم تحقيق العدالة أو عدم كفاية العقوبات التي أصدرت في حق الذين ثبتت إدانتهم. هذه التجارب هي هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب، هيئة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا و اللجنة الوطنية لضحايا الاختفاء القسري في الأرجنتين.

١. هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب: هذه الهيئة تأسست سنة 2004 بغرض جبر الضرر الجماعي ورد الاعتبار لضحايا سنوات الرصاص. تعتبر هذه اللجنة أول لجنة تؤسس في بلد عربي للمصالحة مع الماضي عن طريق الطي النهائي لملفات الاختطاف السياسي والاعتقال التعسفي لأسباب سياسية، وكذلك في سبيل جبر الضرر الذي لحق بالأفراد والجماعات بسبب تصرفات الدولة أو أجهزتها. أهم شيء جاءت به هذه اللجنة في نظرنا هي أنها سمحت لضحايا تلك المرحلة بالكلام رغم القيود التي فرضتها عليهم طبيعة عملها. كما أن الدولة المغربية قامت بصرف تعويض مادي للضحايا.

٢. لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا: هذه اللجنة أسست سنة 1995 بغرض التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان خلال مرحلة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. تميزت أشغالها بالانكباب على الاستماع للضحايا وتوثيق الجرائم التي تعرضوا لها. لم يكن تعويض الضحايا من بين أسس المصالحة في جنوب إفريقيا إلا أنها أبقت على خيار اللجوء إلى القضاء، لمتابعة أعضاء النظام السابق، مفتوحا في وجه الضحايا. كما أنها وفرت ضمانات لكل من ارتكب جرائم تعذيب خلال هذه المرحلة بالحصول على العفو إذا قدموا شهاداتهم حتى إذا لم تعرف جرائمهم.

٣. اللجنة الوطنية لضحايا الاختفاء القسري في الأرجنتين: تأسست هذه اللجنة سنة 1983 لطي صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان إبان الحقبة الديكتاتورية في الأرجنتين. هذه اللجنة الوطنية أسست لغرض التحقيق في الاختفاء القسري بين 1976 و1983 وإثبات الحقيقة حول هذه الحالات، وكذلك تحديد أماكن تواجد رفات الضحايا. كما أنها على غرار التجربة المغربية قدمت تعويضات للضحايا الذين أثبتوا أنهم اعتقلوا بدون محاكمة في الفترة ما بين 1976 و1979، ويقدر مبلغ التعويض الإجمالي للضحايا بثلاث مليارات من الدولارات. التجربة الأرجنتينية أبقت أيضا على حق الضحايا في اللجوء إلى القضاء لمتابعة جلاديهم.

كل هذه اللجن قدمت توصيات أخذت بها المؤسسات السياسية للدول المعنية في سبيل بناء دولة ديمقراطية مدنية. وتبقى توصياتها رغم نقائصها وثائق مهمة لفهم تاريخ هذه الشعوب وماضيها ومدخلا لفهم الذاكرة المشتركة. هذه النماذج الثلاثة يمكن أن تشكل نقطة انطلاق مهمة للوطن العربي الجديد في طريقه نحو التعددية السياسية والمواطنة المسئولة، المبنية على قيم العدالة والحقيقة، والقطع مع عقلية القبيلة والطائفية البغيضة التي لم ولن تؤدي إلى تحقيق العدالة، ولن تساهم في انتقال العرب إلى عصر الدولة المدنية الديمقراطية والحداثية.

ان الانخراط في مشروع مصالحة وطنية شاملة تسمح بإعادة بناء الذاكرة المشتركة، بعد محاكمة كل المجرمين السياسيين والاقتصاديين، سيحرر العرب من أغلال الماضي الأليم وسيفتح لهم أبواب مستقبل البناء المؤسساتي. فمحاكمة القذافي ومبارك وبن علي وكل الذين اقترفوا جرائم سياسية واقتصادية في حق شعوبهم، يجب أن تحضى بالأولوية ليس بغرض التشفي ولكن في سبيل حفظ الذاكرة المشتركة، وإكراما لأرواح الذين سقطوا في سبيل الحرية. فبناء دولة المؤسسات لا يتم بالانتقام ولكن يتم عن طريق الحوار الوطني الشامل والرغبة الصادقة في بناء دولة ووطن الغد. حفظ الذاكرة الجماعية يبدأ بإطلاع الشعوب على أرشيف الفساد، الاغتناء غير المشروع، تفكيك أجهزة القمع وتحويل مقراتها إلى متاحف، بناء النصب التذكارية لضحايا الديكتاتورية وإصدار قوانين تجرم كل أشكال الممارسات الحاطة بالكرامة الإنسانية وتجريم احتكار السلطة، وأخيرا بتوفير محاكمة عادلة تتوفر فيها كل شروط النزاهة والشفافية للديكتاتور نفسه.

 

 

 

SUPPORT OUR WORK

 

Please consider giving a tax-free donation to Reset this year

Any amount will help show your support for our activities

In Europe and elsewhere
(Reset DOC)


In the US
(Reset Dialogues)


x