مجتمع “ما بعد العلمانية” ماذا يعني ذلك؟
بقلم يورغن هابرماس 16 September 2008

هذه المداخلة قدمها الفيلسوف الألماني خلال مشاركته في الأيام الدراسية المنظمة من طرف مؤسسة ريسيت للحوار بين الحضارات في اسطنبول من 2 يونيو إلى السادس منه سنة 2008.

إن مجتمع "ما بعد العلمانية" يجب أن يكون أولا في نقطة معينة في دولة "علمانية"، إن هذا المصطلح السجالي يمكن فقط تطبيقه على المجتمعات الأوربية الغنية أو بلدانا ككندا، أستراليا و زيلاندا الجديدة حيث تعرضت الروابط الدينية للناس للإهمال بشكل منتظم، في الحقيقة بشكل دراماتيكي في فترة ما بعد الحرب. إن هذه المناطق عاشت الانتشار العام لوعي بأن المواطنين يعيشون في مجتمع معلمن. بتعبير المؤشرات الاجتماعية، فإن السلوك الديني والقناعات الدينية للسكان المحليين لم تتغير بأي حال من الأحوال منذ ذلك الحين إلى درجة تبرر وسم هذه المجتمعات ب " ما بعد العلمانية".
إن النزعات نحو أشكال غير مؤسساتية وروحية جديدة للتدين لم "تعوض" الخسائر الملموسة للتجمعات الدينية الرئيسية.
1 ـ إعادة النظر في النقاش السوسيولوجي حول العلمنة. بالرغم من ذلك فإن التغييرات الشمولية والنزاعات الظاهرة التي تندلع في علاقة مع القضايا الدينية تقدم لنا سببا للشك في تفاؤل الصلة الوثيقة للدين. إن عددا قليلا من علماء الاجتماع الآن فقط يؤيدون الفرضية، ولم تتم معارضتها لزمن طويل ـ القائلة بوجود ارتباط وثيق بين تحديث المجتمع وبين علمنة السكان (الشعب). إن هذه النظرية مؤسسة منذ النظرة الأولى على ثلاثة اعتبارات منطقية. أولا، إن التقدم في العلم والتكنولوجي يشجع على فهم متمركز حول الإنسان (Anthrpocentic) لعالم "محرر من السحر" لأن جميع الحالات التجريبية والأحداث يمكن تفسيرها بشكل سببي، وإن عقلا متنورا علميا لا يمكن أن تتم مصالحته بسهولة مع نظرات للعالم متمركزة حول اللاهوت والميتافيزيقيا. ثانيا، مع التفريق الوظيفي بين الأنظمة الاجتماعية الفرعية، الكنائس والمنظمات الدينية الأخرى تفقد سيطرتها على القانون، السياسة، الرفاهية العامة، التربية والعلم، إنها تحصر نفسها في وظيفتها الأصلية في إدارة وسائل الخلاص، تحويل الدين إلى مسألة شخصية وعلى العموم فقدان التأثير والصلة الوثيقة. أخيرا، إن التطور من مجتمع فلاحي إلى مجتمع ما بعد ـ صناعي مرورا بالمجتمع الصناعي يقود في المعدل إلى مستويات أعلى من الرفاهية وأمن اجتماعي أكثر، ومع تسهيل المخاطر في الحياة، وبالتالي أمان وجودي يكبر باستمرار، هناك انخفاض في الحاجة الشخصية إلى ممارسة تعد بالتأقلم مع الطوارئ الغير المتحكم فيها عبر الإيمان في قوة أعلى: أو كونية.
هذه هي الأسباب الأساسية لأطروحة العلمنة، إن هذه الأطروحة كانت مثار جدل بين زمرة الخبراء في علم الاجتماع لأكثر من عقدين من الزمن الآن. مؤخرا وفي فجر النقد المبني على أسس لأفق ضيق ممركز حول أوربا، يوجد الآن حديث عن "نهاية نظرية العلمنة". إن الولايات المتحدة التي ـ بفضل نبض جماعتها الدينية بالنشاط والنسبة الغير المتغيرة من المواطنين الملتزمين دينيا والنشيطين ـ رغم ذلك تبقى رأس الحربة في العصرنة (التحديث) كان ينظر إليها لمدة طويلة باعتبارها الاستثناء العظيم لنزعة العلمنة. ولكن الولايات المتحدة أصبحت اليوم تمثل القاعدة لأنها أطلعت عن طريق يعد كوني ممتد على ثقافات أخرى وعلى ديانات العالم.
من وجهة النظر "المراجعة" (Revisionist) هذه فإن التطور الأوربي الذي كاتب عقلانية الغربية في ما مضى يفترض أنها تخدم كنموذج لبقية العالم، هي في الحقيقة استثناء وليست القاعدة ـ سالكة طريقا منحرفا. نحن وليس هم الذين يتبعون Sonderweg. وفوق كل شيء ثلاث ظواهر متداخلة تلتقي لخلق الانطباع ب "عودة" الدين" في جميع أنحاء العالم : التوسع التبشيري (أ) التطرف الأصولي (ب) والتوظيف السياسي لاحتمالات العنف المتأصلة في كثير من الديانات عبر العالم (ج):
أ ـ أول علامة على هذه الحيوية هي حقيقة أن الارثودكس أو على أية حال المحافظين، مجموعات داخل المنظمات الدينية المنشأة والكنائس هي طور في النهوض في كل مكان. وهذا صحيح للهندوسية والبوذية وبنفس القدر بالنسبة للديانات التوحيدية الثلاث. الأهم من ذلك كله هو الانتشار الإقليمي لهذه الديانات في أفريقيا وبلدان شرق وجنوب شرق آسيا. يبدو أن النجاح التبشيري يعتمد من بين أمور أخرى على مرونة أشكال التنظيم المقابلة. إن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية المتعددة الجنسيات والثقافات تتأقلم مع نزعة العولمة بشكل أحسن من الكنائس البروتستانتية والتي هي منظمة على الصعيد الوطني ولكنها الخاسر الرئيسي. الأكثر دينامكية من كل هذا هي شبكات الإسلام الغير الممركزة (خاصة في إفريقيا جنوب الصحراء) والإنجيليين (ولاسيما في أمريكا اللاتينية) إنها تبرز شكلا منتشيا للتدين مستوحاة من قادة جذابين.
ب ـ أما فيما يخص الأصولية، الحركات الدينية الأسرع نموا، مثل أتباع مذهب العصرنة والمسلمين الراديكاليين، يمكن بكل سهولة وصفهم "بالأصوليين". إما أنهم يحاربون العالم الحديث أو ينسحبون منه إلى العزلة. إن أشكالهم من العبادة تجمع بين الروحانية والعبادة مع مفاهيم أخلاقية صارمة والتقيد الحرفي بالنصوص المقدسة. على النقيض من ذلك، فإن "حركات العصر الجديد” التي تناسلت كالفطر منذ السبعينات تظهر توفيقا بين المعتقدات ذا طابع "كاليفورني" يشتركون مع الإنجيليين في شكل ممارسة دينية غير مؤسسة. لقد نشأت ما يقارب 400 من هذه الطوائف في اليابان التي تجمع بين عناصر من البوذية والأديان الشعبية مع مذاهب غير علمية وباطنية. أما في جمهورية الصين الشعبية فإن القمع السياسي لطائفة "فالون كونغ" قد سلط الضوء على عدد كبير من " الأديان الجديدة" التي يعتقد أن عدد أتباعها بلغ 80 مليون شخصا.
ج ـ وأخيرا ، فإن نظام الملالي في إيران والإرهاب الإسلامي ليست سوى الأمثلة الأبرز للإطلاق العنان السياسي لإمكانات العنف الكامنة في الدين . كثيرا من النزاعات الحارقة التي هي في الأصل نجسة يتم إشعالها أول مرة عندما يتم ترميزها بعبارات دينية. هذا صحيح كذلك بخصوص " عدم علمنة" صراع الشرق الأوسط، بخصوص سياسات القومية الهندوسية والصراع الدائم بين الهند وباكستان وتعبئة اليمين الديني في الولايات المتحدة قبل وأثناء غزو العراق.
2 ـ إن الوصف السردي "لمجتمع ما بعد العلمانية " وقضية المعيارية في الكيفية التي ينبغي أن يفهم المواطنون أنفسهم في مثل هذا المجتمع. لا يمكنني القيام بمناقشة تفصيلية للخلاف بين علماء الاجتماع المتعلق ب Sonderweg المفترض للمجتمعات المعلمنة في أوربا في خضم مجتمع دولي معبأ دينيا. انطباعي هو أن المعطيات التي يتم جمعها كونيا ما زالت تشكل بشكل فجائي مصدر دعم فوري بالنسبة للمدافعين عن أطروحة العلمنة (ن 9) . أعتقد أن ضعف نظرية العلمنة يرجع إلى التسرع في استخلاص الاستنتاجات التي تخدع استعمالا غير دقيق لمفهومي "العلمنة" و"التحديث" ما هو صحيح هو أنه في مسار التفريق بين كنائس الأنظمة الاجتماعية الوظيفية والطوائف الدينية قصرت نفسها بشكل متزايد في وظيفتها الرئيسية المتمثلة في العناية الرعوية وكان عليها التخلي عن اختصاصاتها في مجالات أخرى في المجتمع. في نفس الوقت انسحبت ممارسة الإيمان إلى مجالات أكثر شخصية وذاتية. ثمة علاقة بين التحديد الوظيفي للنظام الديني وبين فردنة ممارسة الشعائر الدينية.
ولكن كما يشير خوسي كازانوفا (Jose Casanva) ، فإن فقدان الوظيفة والنزعة نحو الفردنة لا يعنيان بالضرورة أن الدين يفقد تأثيره وأهميته سواء في المجال السياسي أو في كافة مجتمع أو في السلوك الشخصي في الحياة بصرف النظر عن وزنها العددي فإن الطوائف الدينية ما زال يمكنها أن تطالب على ما يبدو " بمقعد" في حياة المجتمعات المعلمنة بشكل كبير. يمكن اليوم وصف الوعي العمومي في أوربا فيما يتعلق " بمجتمع ما بعد العلمانية" إلى حد اليوم بأنها ما زال يجب عليها أن "تكيف نفسها مع الوجود المستمر للطوائف الدينية في محيط يتعلمن بشكل متزايد". إن القراءة المنقحة لفرضية العلمنة ترتبط أقل بجوهرها وأكثر بالتكهنات المتعلقة. بالدور المستقبلي " للدين"، إن وصف المجتمعات الحديثة بما بعد العلمانية " يشير إلى تغير في الوعي أنسبه بشكل رئيسي إلى ثلاث ظواهر:
أولا، الإدراك الواسع لهذه النزاعات الكونية التي يتم تقديمها عادة على أنها تتمحور حول الصراع الديني تغير الوعي العمومي، إن اغلب المواطنين الأوروبيين لا يحتاجون وجود الحركات الأصولية الدخيلة والخوف من الإرهاب من حيث تعريفه الديني ـ لجعلهم واعين بنسبيتهم في الأفق الكوني. هذا يقوض الإيمان العلماني في ما يتعلق بالاختفاء القريب للدين ويسلب الفهم العلماني للعالم من حماس أي انتصار. ولم يعد الوعي بالعيش في مجتمع علماني يرتبط باليقين بأن التحديث الثقافي والاجتماعي يمكنه أن يتقدم فقط على حساب التأثير العمومي والأهمية الشخصية للدين.
ثانيا ، الدين يكسب النفوذ ليس فقط على مستوى العالم ولكن كذلك داخل الفضاءات الوطنية العامة، أنا هنا أتحدث عن حقيقة أن الكنائس والمنظمات الدينية تضطلع بشكل متزايد بدور " مجتمعات للتفسير " في المجال العمومي داخل المجتمعات العلمانية (ن 12) . يمكنها أن تصل إلى التأثير على الرأي العام وستفعل بالمساهمة في القضايا الأساسية بصرف النظر عما إذا كانت حججها مقنعة أو قابلة للاعتراض. إن مجتمعاتنا التعددية تشكل مجلس استجابة لمثل تلك للتدخلات لأنها تنقسم بشكل متزايد في صراعات القيم التي تتطلب تقنينا سياسيا. سواء تعلق الأمر بإباحة الإجهاض أو الموت الرحيم الطوعي أو القضايا المتعلقة بالأخلاقيات في علم الأحياء في الطب الإنجابي، مسائل حماية الحيوانات أو تغيير المناخ تحول هذه المسائل وأخرى مشابهة المقدمات المنطقية المفرقة مبهمة لدرجة لا يمكن معها بأي حال من الأحوال تسويتها منذ البداية أي فريق يمكن أن يستند على البديهيات الأخلاقية الأكثر إقناعا.
دعوني أدفع بالقضية قريبا من الوطن، اسمحوا لي بأن أذكركم بأن وضوح وحيوية الطوائف الدينية الأجنبية تحفز كذلك الاهتمام بالكنائس والأبرشيات المألوفة. الجيران المسلمون يرغمون المواطنين المسيحيين على ممارسة دين منافس . ويمنحون كذلك المواطنين العلمانيين وعيا أكثر حماسا عن ظاهرة الحضور العمومي للدين. الحافز الثالث لتغيير الوعي بين السكان هو هجرة " العمال ـ الضيوف" واللاجئين خاصة من البلدان ذات المرجعيات الثقافية التقليدية. مند القرن السادس عشر وأوروبا تتعامل مع الانقسامات الطائفية داخل ثقافتها ومجتمعها. في أعقاب الهجرة الحالية فإن التنافر الصارخ بين الديانات المختلفة يرتبط بتحدي تعددية أنماط حياة مجتمعات المهاجرين. هذا يمتد إلى بعد من تحدي تعددية الطوائف. في مجتمعات مثل مجتمعاتنا التي ما زالت مشدودة في مسلسل التحول المؤلم إلى مجتمعات الهجرة ما بعد الاستعمار تصبح قضية التعايش المتسامح بين الطوائف الدينية المختلفة أصعب بسبب المشكل الصعب المتمثل في كيفية إدماج ثقافات المهاجرين اجتماعيا . في نفس الوقت الذي يتم التأقلم فيه مع ضغط عولمة أسواق اليد العاملة، يجب أن ينجح الإدماج الاجتماعي حتى تحت الظروف الغير الحافظة للكرامة… المتمثلة في عدم المساواة الاجتماعية المتزايدة. لكن هذه قصة أخرى. لقد اتخذت حتى الآن موقف المراقب الاجتماعي في محاولة الجواب عن سؤال لماذا يمكن تسمية المجتمعات العلمانية بمجتمعات " ما بعد العلمانية ". يحتفظ الدين في هذه المجتمعات بتأثير وأهمية عموميين في حين أن القناعة العلمانية بأن الدين سيختفي في جميع أنحاء العالم في سياق التحديث تتآكل. إذا كان لنا من الآن فصاعدا تبني وجهة نظر المشاركين مع ذلك ستواجه سؤالا مختلفا ومعياريا: كيف يجب علينا أن ننظر إلى أنفسنا كأعضاء مجتمع ما بعد العلمانية وماذا يجب علينا توقعه بشكل متبادل أحدنا من الآخر في سبيل ضمان بقاء العلاقات الاجتماعية مدنية في الدول القومية الراسخة رغم نمو تعدد وجهات النظر العالمية ثقافيا ودينيا؟
جميع المجتمعات الأوربية اليوم تواجه هذا السؤال. وأنا أحضر هذه المحاضرة خلال شهر فبراير، عطلة نهاية أسبوع واحدة عرضت لي ثلاث مواد إخبارية مختلفة. الرئيس ساركوزي (Sarkozy) أوفد 4000 شرطي إضافي إلى الضاحية الباريسية السيئة السمعة المتأثرة كثيرا بشغب الشباب المغاربي، أسقف كانتربري (Canterbury) أوصى بأن يعتمد التشريع البريطاني أجزاء من الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بقانون الأسرة لفائدة سكانها المسلمين المحليين، وشب حريق في مبنى ب Ludwigshafen حيث لقي تسعة أتراك حتفهم، أربعة منهم أطفال هذا على الرغم من عدم وجود أدلة حول من أشعل النار فإنه تسبب في شك عميق بين وسائل الإعلام التركية دون أن قول الفزع. هذا ما أقنع رئيس الوزراء التركي بزيارة ألمانيا والتي ألقى خلالها خطابا متناقضا في إحدى ساحات كولونيا والذي تسبب في ردود مدوية في الصحافة الألمانية.
هذه النقاشات اكتسبت لهجة شديدة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية. أوقد قتل تيوفانكوخ في هولندا نقاشا عموميا عاطفيا كما هو الأمر بالنسبة لقضية رسوم محمد في الدانمرك.إن هذه النقاشات اتخذت صفات خاصة بها. لقد تجاوز صداه حدود البلد. وأطلقت العنان لنقاش أوربي واسع. أنا مهتم بفرضيات الخلفيات التي تجعل هذا النقاش حول "الإسلام في أوروبا" متفجرة إلى هذه الدرجة. لكن قبل أن أتناول الجوهر الفلسفي للاتهامات المتبادلة، دعوني ألخص بشكل أوضح نقطة الانطلاق المشتركة للأطراف المتعارضة ـ التفسير السليم لما نحن معتادون على تسميته ب " فصل الدين والدولة".
3 ـ من طريقة غير مريحة للعيش إلى توازن بين المواطنة المشتركة والاختلاف الثقافي.
إن علمنة الد&#160

SUPPORT OUR WORK

 

Please consider giving a tax-free donation to Reset this year

Any amount will help show your support for our activities

In Europe and elsewhere
(Reset DOC)


In the US
(Reset Dialogues)


x