الديمقراطية
كارلو غالي 29 June 2010

لذلك فإن الديمقراطية قد خلقت عبر المشاركة الجماعية، من خلال عقد اجتماعي أو عبر رمز آخر لسلطة الشعب الدستورية، سلطة المشرع (البرلمان) التي بالإضافة إلى القانون تحقق تجانسا مع الحقوق الطبيعية للأفراد مما يمنحهم منزلة المواطنين. ولدت الديمقراطية تاريخيا في أوربا مع الثورة الفرنسية وفي الولايات المتحدة مع الاستقلال من الاستعمار الإنكليزي. و خلال القرنين التاسع عشر والعشرين أفرزت الحروب والصراعات وحالات التقدم والنكوص ديمقراطية على الصعيدين السياسي، من خلال الاقتراع الشامل الذي يمثل الشرط السياسي الشكلي للدولة الديمقراطية والاجتماعي. إن الدولة الاشتراكية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين كانت في الحقيقة محاولة لدفع الديناميات الاقتصادية والتقنية التي حفزت أوربا كي تتبع منطق المساواة السياسية، بدلا من ترك تلك الديناميات لتخلق اختلالات كبيرة في توزيع السلطة داخل المجتمع.

تعني الديمقراطية اليوم المشاركة الحرة والفاعلة لكافة المواطنين في حياة سياسية مفتوحة ودينامية وجماعية. هدف الديمقراطية ليس فقط الدفاع عن الحقوق بل تعزيز نمو الأفراد والمجتمعات الوسيطة. ووفقا للنظرية السياسية، فإن الديمقراطية بوصفها تمثيلا للفرد وللمجتمع وللدولة تنطلق من تقاليد سياسية غربية عديدة، من علمنة المسيحية وقيمها المتعلقة بالكرامة والمساواة، وأيضا من المنطلقات القانونية المستندة على مبدأ العقد الاجتماعي، ومن التقليد الدستوري الأنجلوسكسونيي والليبرالية، وكذلك من التقليد القاري الأوربي، ومفهومي الحقوق والتنوير. إنها تنطلق من الرؤية الجمهورية، وأيضا الاشتراكية، من الديمقراطية الاشتراكية ومن الكاثوليكية الاجتماعية.

تنطوي الديمقراطية على ربط السلطة بالسيادة الشعبية واستبعاد أي منطلق خارجي للسلطة بما في ذلك المنطلق الديني. إنها تتطلب سيطرة دورية على السلطة وتداول حقيقي لها، وتوازنا بين السلطات السياسية المتعددة كما بين السلطات السياسية والاجتماعية (التعددية). تتطلب الديمقراطية أيضا التطبيق النظري والعملي لحقوق الانسان (الانسانية والمدنية والسياسية والاجتماعية والجنسية والمقترنة بالانتماء إلى مجموعة معينة). وتنطوي الديمقراطية على حرية الانتماء إلى الأحزاب السياسية والنقابات، وعلى حرية التجارة والملكية والعمل والرفاه والثقافة والدين، وهي تمثل التعددية ليس فقط على المستوى المؤسساتي، بل وفي الإطار الاجتماعي أيضا.

ورغم احتوائها على تناقضات داخلية قد تؤدي إلى ظهور مجتمع جماهيري سلبي ومنصاع تقوده سلطات ديماغوجية، فإن الديمقراطية اليوم بحاجة لأن تتعامل مع تحديات أكبر تظهر من مهمتها الأصلية ذات البعد الكوني. مع ذلك فهي تحديات تتولد بشكل خاص في الثقافة الغربية، مع وجود اختلافات داخلية. لذلك من الصعب تصدير الديمقراطية بأشكالها المؤسساتية والاجتماعية خارج العالم الغربي عبر أي منهج (سواء كان سلميا أم عسكريا). لهذا السبب تبدو الديمقراطية غالبا وكأنها وسيلة لنشر الهيمنة الغربية في العالم، بالضبط كما هو الحال مع الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا والترفيه. إن النهج الديمقراطي في السياسة الذي يدور حول ذاتية حقوق الإنسان، ويعتبر أن هناك تجليات معينة ذات مقبولية كونية للشرعية في العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الدين والسياسة، بين المجتمع والدولة، وهي تجليات لا يمكن إدراكها إلا بوصفها نتاج لتجربة تاريخية وسياسية فريدة.

وعلى الرغم من أن بعض الحضارات غير الغربية تدرك أن هناك فوائد لوضع حدود للسلطة، فإنه ليس من السهل دمج الديمقراطية في هذه الحضارات التي لديها أوضاعها التاريخية الخاصة. ومن جانب آخر، حتى في المجتمعات الديمقراطية الغربية تواجه الديمقراطية تحديا يتمثل بالوجود المتنامي للأفراد الذين ينتمون إلى خلفيات ثقافية لم تتطور فيها المفاهيم والمؤسسات الديمقراطية. وذلك يمكن أن يقود إلى تجزئة المواطنة الديمقراطية إلى مجموعة متنوعة من الهويات الثقافية الجماعية التي يميل الأفراد إلى منحها ولائهم الأساسي. وهذه التجزئة يمكن أن تؤدي بسهولة إلى صراعات ثقافية. ومن أجل مواجهة هذا التحدي الناتج عن التعددية الثقافية، فإن أمام الديمقراطية خيارات مختلفة. من جهة، يمكنها أن ترفض منح منزلة سياسية مميزة للثقافات المختلفة وبدلا من ذلك تعطي أفضلية لانعتاق الأفراد من ثقافاتهم تلك، عبر التركيز الحصري على القيم المقترنة بالمواطنة الحرة والمتساوية، وفقا للنموذج الجمهوري الفرنسي.

ومن جانب آخر، إذا ما بدأنا بالافتراض أن بالإمكان تنظيم نوع من الاقتران الديمقراطي ليس فقط للأفراد والطبقات، بل وأيضا للثقافات، فإن الديمقراطية حينها يمكن أن تحتوي كل المبادئ الأساسية المرتبطة بالسماح بمستوى معين من النسبية والتسامح بمعانيهما الحقيقية الواضحة (وبما يعنيه ذلك من قبول تطور الشخصيات في بيئات عائلية ودينية غير غربية). إن هذا النهج وبدلا من السعي إلى تحييد الثقافات، يحاول أن يقيم حوارا بينها يمكن أن يقود إلى اعتراف متبادل وإلى إنشاء أرضية مشتركة للاقتران الديمقراطي مع الإبقاء على نافذة للتعددية الثقافية. هنالك أفق جديد للديمقراطية في عالمنا المعولم حيث يبرز التعدد الثقافي والسياسي وتواجه المفاهيم الكونية معضلات جديدة، وحيث نشهد ثنائية الإقصاء والنسبية. وهذا الأفق الجديد يمكن أن يؤدي بنا إلى لحظات تأزم محتملة، ولكن أيضا إلى التغير والتطور.

ترجمة: حارث القرعاوي