فتح أبواب الاجتهاد: 2. محمد عابد الجابري
فريد دالماير، جامعة نوتردام، الولايات المتحدة 10 April 2011

ركزنا في حديثنا بشكل اساسي على كتابه “مقدمة في نقد العقل العربي” الذي ظهرت ترجمته الانكليزية قبل سنوات قليلة. ثم التقيته مجددا عام 2006 بمناسبة يوم الفلسفة العالمي الذي نظمته اليونيسكو في الرباط، وفي ذلك الوقت كما اتذكر تم منحه جائزة ابن سينا للفلسفة من قبل اليونيسكو. لم أعلم انني ساعود بعد اربعة سنوات للحديث عن ذكراه.

ان قصة حياة الجابري هي اقل دراماتيكية وألماً من قصة ابو زيد. فمع بعض الانقطاعات القليلة، كان الجابري قادرا على قضاء معظم حياته في بلده المغرب (وبالتالي لم يمر بتجربة البرج المائل الصعبة التي مر بها ابو زيد ). ولد في ديسمبر/كانون الثاني عام 1935 في مدينة صغيرة بالقرب من قوجدة في جنوب شرق المغرب. بدأ دراسته الجامعية عام 1958 حيث قضى عام واحد في جامعة دمشق في سوريا ثم واصل الدراسة في جامعة الرباط. بعد تخرجه عام 1962، عمل كمدرس فلسفة في الثانوية ثم كمدير مدرسة. وعام 1967 بدأ دراسته العليا في الفلسفة والفكر الاسلامي في جامعة محمد الخامس في الرباط حيث حصل على درجة الدكتوراه عام 1970 عن اطروحته حول ابن خلدون. ومنذ ذلك الوقت حتى تقاعده عام 2002، شغل منصب استاذ الفلسفة والدراسات الاسلامية في نفس الجامعة. وخلال حياته، حصل على عدد كبير من الجوائز التي رفض بعضها. فقد أعاد جائزة مالية كبيرة من الرئيس العراقي السابق صدام حسين واخرى من الزعيم الليبي معمر القذافي. ومن بين الجوائز التي قبلها كانت جائزة الثقافة العربية عام 1988، وجائزة المغرب للثقافة التي منحت من تونس عام 1999، وميدالية ابن سينا من اليونيسكو في يوم الفلسفة العالمي عام 2006، وجائزة ابن رشد لحرية الفكر التي منحت له في برلين عام 2008.

هناك الكثير من اوجه الشبه واوجه الاختلاف بين ابو زيد والجابري. فعند المقارنة نجد ان الجابري كان اكثر انخراطا في النشاط السياسي والحركات السياسية في بلاده والعالم العربي. خلال الستينيات، كان عضوا في “الاتحاد الوطني للقوى الشعبية ” UNFP الذي كان يمثل الجناح اليساري لحزب الاستقلال الوطني. وفي يوليو/نموز 1963 تم سجنه لمدة قصيرة بسبب نشاطاته السياسية. وبعد حل الاتحاد الوطني للقوى الشعبية، خدم للفترة بين 1975 و 1988 كعضو بارز في “الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية”. وخلال مجرى تطور نشاطه السياسي ازدادت عدم قناعته بالصيغ الايديولوجية السائدة – وبضمنها الاشتراكية والماركسية والليبرالية. ودفعه ذلك الى التوجه بشكل مكثف الى الفكر الاسلامي الكلاسيكي على أمل ايجاد مصادر للتجدد السياسي والفكري في زمننا.

احد أوجه الاختلاف الاخرى بين المفكرين يتعلق بالتوجه الفلسفي والجينولوجيا الفلسفية لكليهما. فكما اشرنا سابقا، فان ابو زيد وضع نفسه عن قصد ضمن ميراثين: الاول هو ميراث الفلسفة الاسلامية الكلاسيكية (من المعتزلة الى ابن رشد ) والثاني هو ميراث الصوفية (مع التركيز على ابن عربي). اما الجابري فقد أشاد بابن رشد بوصفه موجهه الفلسفي الاول، وكان يميل الى تبني البساطة العقلانية لـ”الاسلام المغربي” بمواجهة الميول الصوفية-الباطنية لاسلام المشرق. وبشكل عام، فان اعماله تقدم “البرهان” (التفكير الاستدلالي) و “البيان” (التحليل اللغوي) على “العرفان”(القراءة الباطنية). لذلك سيكون من الصعب ان نجد في كتاباته اشارت لابن عربي او الرومي – رغم حقيقة انه كان شخصا هادئ الطباع (كما اكتشفت في نقاشاتي معه) وقادر على ان يقتبس من الرومي او اي من الشعراء المسلمين بدون صعوبة او تكلف.

لكنني اريد ان التفت هنا الى الشبه لا الاختلاف بين المفكرين. الميزة الاساسية التي تربط الاثنين في رأيي هي الجهد في ايجاد طريق وسط بين التشدد الديني او الاصولية من جهة، وبين الرفض العلماني/اللائيكي للفكر الديني من جهة اخرى. وكما ذكر الجابري بشكل متكرر، فان هدفه هو ان يتجاوز “الاستقطاب السائد في الفكر العربي او الاسلامي”، اي بين “حداثة مستعارة” تتجاهل تماما التقاليد الاسلامية و (في الجانب الاخر) ” تقليدانية او اصولية عربية” تقدم للعرب او المسلمين هوية متفوقة عبر العودة الى الماضي. وكما هو راي ابو زيد، يعتقد الجابري ان الوحي الديني موجه الى البشر في وضعهم التاريخي المحدد وبالتالي لايمكن فهمه الا اذا اخذنا بالاعتبار الاطار التاريخي والاجتماعي. لايعني ذلك ان الاطار التاريخي والاجتماعي محصن من النقد او التحول، لكن مثل هذا التحول يمكن ان يحصل فقط في ظل ادراك الظروف السائدة. وكما هو الحال مع ابو زيد، شدد الجابري على ان التفسير هو دائما متعدد ولا يمكنه ابدا ان يحقق يقينية نهائية او يتمثل بصوت واحد. وبالاضافة الى الدور الذي يلعبه الاطار الثقافي والتاريخي واللغوي، فان هذه التعددية تقترن ايضا بالتعقيد الداخلي وتنوع التقاليد، بما فيها التقاليد الدينية. وربما اكثر من ابو زيد، نسب المفكر المغربي “صراع التفسيرات” الى الاستقلالية الفردية وحرية المفسرين الافراد (حتى عندما تمارس هذه الحرية بمسؤولية). وفي اطار مبادرته النقدية فان الجابري – وكما فعل ابو زيد – وضع نفسه الى جانب ليس فقط الفلسفة الاسلامية المبكرة (لاسيما فلسفة المعتزلة وابن رشد )، بل وايضا الى جانب المصلحين الاسلاميين البارزين في القرن التاسع عشر الذي انتجوا في رأيه اعمالا تتطلب المراجعة والتعميق اليوم.

ان كتابات الجابري اتسمت بالتراكمية والاتساع وركزت على عدد من القضايا، مثل الثقافة والتعليم والسياسة، لكن همه الاساسي كان دائما يتناول العلاقة بين الاسلام والعالم الحديث. ومن بين كتاباته المبكرة (العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي: 1971 )، (من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية: 1977)، (نحن والتراث: 1980 ). لكن تركيزه الاساسي تناول الفكر النقدي والتجديد في الحياة الثقافية العربية والاسلامية، وقاده ذلك الى مشروعه الاساسي: (نقد العقل العربي ) الذي ظهر في ثلاثة اجزاء في بيروت ابتداءا من عام 1982 (وعنوان الكتاب يعكس بوضوح تاثره بالفكر الكانتي). وقد شمل المشروع ثلاثة مجالات بحثية: “تكوين العقل العربي، 1984″، “بنية العقل العربي، 1986″، و “العقل السياسي العربي، 1990”. وكما ذكرنا سابقا، ظهر جزء من هذا المشروع عام 1999 باللغة الانكليزية بعنوان (الفلسفة العربية-الاسلامية: رؤية نقدية معاصرة). ومؤخرا، نشر له كتابان بالانكليزية هما (الديمقراطية، حقوق الانسان، والقانون في الفكر الاسلامي: 2008)، و (تكوين العقل العربي: النص، التقليد، وتشكل الحداثة في العالم العربي: 2010 ).

من المستحيل مجددا ان نستطلع كل اعماله، ولكنني سوف اعرض بعض الفقرات من كتابه الفلسفة العربية-الاسلامية (وهو يمثل الترجمة الانكليزية لمقدمة كتابه نقد العقل العربي). ان عنوان المقدمة تلك يكشف الهدف الاساسي للدراسة: “لنسعى نحو حداثتنا عبر التفكير في تراثنا”. العنوان منذ البداية يسائل الفصل المعتاد بين التراث والحداثة، ومن خلال التأكيد على “حداثتنا”، فان تلك العبارة تتحدى تظاهر التنوير الغربي في انه يمثل الحداثة بمجملها، او انه الشكل الوحيد الممكن للحداثة. بكلمات الجابري (التي تسبق فكرة تايلور عن “الحداثات المتعددة” )، “ليس هناك نوع واحد مطلق وكوني للحداثة، بل هناك حداثات كثيرة متعددة تختلف من منطقة الى اخرى ومن مكان الى اخر”. ان ما تحتفل به اوربا او الغرب بوصفه “حداثة” هو مرحلة تاريخية متميزة نتجت عن التنوير الاوربي، الذي لا يمكن أن ننسخه في ازمان اخرى واماكن اخرى. فبالنسبة للشعوب غير الاوربية وغير الغربية، تنطلق (الحداثة الاوربية) من الخارج “دافعة خصومها الى الانسحاب او التقوقع”. لهذا السبب “طموحنا” نحو الحداثة يجب ان يستند بالضرورة ” على هذه العناصر من العقل النقدي (او الابداعي) الموجود في الثقافة العربية نفسها من اجل تحفيز الاليات الداخلية للتغيير”. لذلك، في اطار الثقافة العربية-الاسلامية، لا تستطيع الحداثة ” ان تنقض التقليد او تقطع كليا مع الماضي، ولكنها بدلا من ذلك تمثل جهدا لرفع الاسلوب الذي من خلاله نفترض علاقتنا مع التراث على مستوى ماندعوه بـ “المعاصرة”، التي تعني بالنسبة لنا اللحاق بالتطورات الكبيرة التي حصلت في العالم”.

وكما كان الامر مع ابو زيد فان الاعتراف بالاطر الثقافية – التاريخية لايعني تحولا الى النسبية التي تتجاهل المطالب التحريرية للحياة الحديثة، كما لا يعني التفاخر بالماضي بطريقة اصولية. فبالنسبة للجابري، هذا التفاخر هو رد فعل “وسيطي (من العصور الوسطى)” ينطوي على الكثير من النتائج (اللاديمقراطية): بمعنى “استمرارية علاقة الحاكم بالمحكوم او المحكومين الذين يختزلون الى قطيع يخضع في شؤونه الذهنية والاجتماعية الى هيمنة الراعي”. للاسف فان مثل رد الفعل هذا مازال واسع الانتشار في العالم العربي- الاسلامي حيث غالبا ما نجد “انسحابا نحو المواقف المتخلفة التي تغدو اسوارا واليات دفاعية ” لهوية راكدة ومزيفة. بمواجهة هذا الانسحاب نحتاج الى ان نطور منهجا يتطلع الى الامام وبدون ان يتجاهل التراث لكنه يغيره في ضوء “العقلانية والديمقراطية”. ان مثل هذا المنهج قادر على احياء ميراث الفلسفة الكلاسيكية من الفارابي الى ابن رشد، كما يرى الجابري، مضيفا: “ان الفارابي (مثل ابن رشد) لم يكن رجلا منعزلا ومنقطعا عن العالم… ولكنه كان مشغولا بمشاكل المجتمع الذي عاش فيه. لقد اهتم بانشغالات معاصريه… كان متفائلا وآمن بالتقدم وبحل المشاكل عبر العقل، وذلك الايمان هو الذي حفز حلمه بـ “المدينة الفاضلة”، مدينة العقل والتجانس والاخوة والعدالة التي استثمر فيها كل علوم زمانه”.

>>3