فتح أبواب الاجتهاد: 3. محمد أركون وعبد الكريم سروش
فريد دالماير، جامعة نوتردام، الولايات المتحدة 10 April 2011

الأول توفي ايضا في نفس العام (في 4 سبتمبر/ايلول 2010). لم اكن محظوظا بما يكفي لاعرف البروفيسور اركون شخصيا، فمعرفتي به تنحصر فيما قرأته من كتاباته. ولد اركون عام 1928 في قرية بربرية في الجزائر وفيما بعد تابع دراسته للفلسفة والادب في جامعة الجزائر والسوربون في باريس. ثم قام بالتدريس في جامعة ليون (1969-1972) والسوربون (1972-1992). وكما الحال مع ابو زيد والجابري فقد حصل اركون على العديد من الجوائز. في عام 1996 تم تكريمه ليكون ضابطا في حرس الشرف الفرنسي، وعام 2001 تم الطلب منه لتقديم محاضرات غيفورد ذات المستوى العالي في ادنبرة. وقد نشر عدد كبير من الكتب بالعربية والفرنسية والانكليزية – بعضها يتعامل بشكل مباشر مع موضوع هذه المقالة. ينطبق ذلك بوضوح على كتابه (مفهوم الوحي: من شعب الكتاب الى مجتمعات الكتاب، 1988). كما ان نصوصه التي حملت عنوان (نقد العقل الاسلامي، 1984) كانت قريبة من كتابات المفكرين المصري والجزائري، وهناك ايضا كتبه (الفكر العربي، 1988)، (اعادة التفكير بالاسلام: أسئلة شائعة، واجوبة غير شائعة اليوم، 1994). بعض نصوصه تتعامل بشكل صريح مع مشكلة التفسير، مثل (الاسلام: نقد واجتهاد، 1994) و (من الاجتهاد الى نقد العقل الاسلامي، 1991).

وفي هذا السياق اود ان اقتبس فقرة واحدة من كتابه (اللامفكر به في الفكر الاسلامي: 2002)، الذي اعيد نشره تحت عنوان (الاسلام: ان نصلح او ان ننقلب، 2006): “ان التوتر الجدلي بين الكتاب المقدس والكتاب البشري يتجسد بوضوح في التوتر الراهن بين الدين والسياسة، بين السلطة الروحية والسلطة السياسية، القانون الالهي والقانون العلماني، الحقيقة الاسطورية والمعرفة التاريخية… هذه المفاهيم تستخدم غالبا للاشارة الى التناقضات والى التعارضات في المواقف.ان التعارض وصل الى مستوى الاقصاء المتبادل من خلال استخدام العنف بين المدافعين الاصوليين عن حكم الله والمدافعين العلمانيين عن حكم القانون والديمقراطية وحقوق الانسان، وكما تقدم بوصفها قيم “الغرب” بمواجهة “الاسلام”. ما احاول ان اقترحه هو ضرورة ان نحفر حقولا جديدة في البحث والتفكير النقدي للوصول الى العناصر غير المكتشفة، والتي لايتم اخذها بالاعتبار لانها تتخفى بين طيات المفاهيم الكثيرة التي تستخدم حاليا في الاستقطاب الايديولوجي”.

اما الصوت الآخر الذي اود الاشارة اليه فهو عبد الكريم سروش، الفيلسوف الايراني المعروف الذي كنت محظوظا بما يكفي لاقامة صداقة معه خلال العقدين الاخيرين. ولد سروش عام 1945 في طهران وترعرع هناك. درس اولا الصيدلة في جامعة طهران ثم في منتصف السبعينيات ذهب الى مدرسة لندن للعلوم الاقتصادية حيث درس الكيمياء التحليلية وفلسفة العلم (التي درسها مع كارل بوبير). بعد فترة قصيرة من اندلاع ثورة 1979 عاد الى طهران حيث برز سريعا كمفكر له حضور. في البداية درس الثقافة الاسلامية في كلية المعلمين ثم غادر الى اكاديمية الفلسفة ومركز ابحاث الانسانيات والعلوم الاجتماعية في طهران. اصبح شخصية مؤثرة ومثيرة للجدل بشكل متزايد، ويعود ذلك اساسا لأنه اختبر مقولات فلسفة العلم (لاسيما موضوع قابلية الخطأ الذي اكد عليه بوبر) على الدوغما الدينية الصاعدة. بعض كتاباته اصبحت متوفرة بالانكليزية من خلال نشر كتابه (العقل، الحرية، الديمقراطية في الاسلام، 2000). بعد ذلك بفترة قصيرة تم طرده من موقعه الاكاديمي ومنع من التدريس او المحاضرة في ايران. ومنذ ذلك التاريخ خدم كاستاذ زائر في عدة جامعات: هارفارد، يال، برينستون، كولومبيا، جورجتاون، Wissenschaftskolleg في برلين، والجامعة الحرة في امستردام. عام 2004 منح جائزة ايراسموس الدولية في روتردام.

خلال العقد الاخير، كرس سروش نفسه للتفسير النقدي للاسلام والقرآن. ويتركز اهتمامه حول فكرة “التوسع و الانكماش ” في المعرفة الدينية، وهي فكرة طورها في كتاب ضخم نشر بالفارسية تحت عنوان (توسع التجربة النبوية: مقالات في التاريخانية، التوافقة والتعددية في الدين، 2009). المقولة الاساسية في هذا النص هي التمييز بين “الجوهر” المقدس و “العوارض” التاريخية – الثقافية في الدين. وهنا اقتبس فقرة مقتضبة منه: “عوارض الدين هي تلك التي كان يمكن ان تستبدل، على العكس من الجوهريات… أهداف النبي هي جوهريات دينية. لكن من اجل ان يعبر عن تلك النوايا ويجعلها قابلة للفهم، يستعين النبي بـ (14 عارض، من ضمنها ) لغة معينة، مفاهيم معينة، مناهج معينة. كل ذلك يحصل في زمن محدد ومكان محدد ولشعب محدد بمواصفات ذهنية وفيزيائية محددة. نشر الدين يواجَه بردود افعال واسئلة معينة، والاستجابة لها يتم باعطاء اجوبة معينة… بذلك فان هذه العوارض الكثيفة تخفي بين طياتها الجوهر الثمين للتدين. ومن أجل كشف هذا الجوهر الثمين، ليس لدينا خيار غير تجريده من تلك القشور السطحية.

ختاما اود العودة الى النتائج السياسية الواسعة للتفسير. وكما اشرت تكرار، كل تفسير يطرح قضية العلاقة بين النسبية والفهم الانساني. وفي المساحات الضيقة جدا لهذه العلاقة تظهر الحرية الانسانية: حرية الفكر والتعبير الحر عنه. و في كوة الحرية الانسانية تلك حتما نجد الوعد بالانعتاق والديمقراطية. ولا يمكن للفجوة ان تردم من خلال الاستبداد واللجوء الى القمع، وقد رأينا في هذه الصفحات ان اثنين على الأقل من المفكرين اللذين تناولناهم – المصري والايراني- عانوا من القبضة الحديدية للقمع. فيلسوف التفسير الاوربي البارز غادامير، كان قد توقع احتمالية مثل هذا القمع حين قال في كتابه الحقيقة والمنهح ان التفسير لايمكن ان يزدهر في مجتمع او نظام يخضع لهيمنة سلطة اوتوقراطية او حاكم على النمط الهوبسي. فالتأويل بوصفه ممارسة للتقويم الحر يتطلب حوارا يحصل ضمن مراجعة فكرية تحولية للتراث: “وعندما لا يكون الحال كذلك – مثلا في دولة تسلطية تعلو فيها ارادة الحاكم على القانون – لا يمكن للتفسير ان يزدهر، لأن الحاكم يستطيع ان يمنع ظهور المراجعة التفسيرية “. وبالتالي، فان التفسير ليس مجرد منهج او اداة بريئة، انه الخطوة الافتتاحية باتجاه الديمقراطية بوصفها نظاما للحرية المسؤولة.