أية أدوار للمؤسسة الدينية الإسلامية في العالم العربي الجديد؟!
إبراهيم الكبلي 20 June 2011

 

النخب الدينية في الوطن العربي، واقصد هنا بالضبط طبقة العلماء المسلمين، لا يمكن تبرئتها من مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية فيما لحق بالعرب والمسلمين، من ظلم لخمسين سنة نظرا لمواقفها المشبوهة  في أحيان كثيرة ثم نظرا لتخليها عن التفكير في القضايا الكبرى ومناقشة القضايا الخلافية بعمق فكري يستمد أسسه من التفكير المنطقي والعلوم الحديثة، ودخلت في متاهات الفتاوى السطحية التي حولت الإسلام كدين، والمسلمين كناس يدينون أو ينتمون إلى الإسلام، إلى أضحوكة في  العالم المتحضر. وقد بدأت نسائم التحرر تهب على الوطن العربي، يصبح التفكير في تفكيك دور المؤسسة الدينية في تجذير الديكتاتورية لزاما لبلورة تصور لشكل المجتمع والمؤسسات السياسية والاقتصادية التي نريدها للعالم العربي المستقل، الخالي من الديكتاتورية.

كما تخلت طبقة كبيرة من النخب العربية عن لعب أدوارها في الارتقاء بالمصالح العامة وإذكاء الفكر النقدي لدى الطبقات الدنيا من المجتمع، فإن النخب الدينية—السنية بوجه التحديد نظرا للخلافات الجوهرية القائمة بينها وبين النخب الدينية الشيعية سياسيا—تخلت عن هذه الأدوار واصطفت في خندق الديكتاتورية. الملاحظ أن طبقة كبيرة، من رجال ونساء المؤسسة الدينية في الوطن العربي، تخلت عن الاضطلاع بمسؤولياتها الأخلاقية في نبذ الظلم، والاحتجاج على غياب العدالة واستشراء الفساد وانتشار التسلط والاستئثار بالحكم من قبل أقلية لا تمتلك أية شرعية. في مقابل هذا السكوت عن الديكتاتورية، أطلق الكثير من علماء الدين العنان لألسنتهم ليطلقوا فتاوى غريبة في محتواها، مضرة للإسلام والمسلمين برسالتها، مشبوهة في توقيتها، ومقززة في مضمونها لكل ذي غيرة على الإسلام ولكل متمرس على التواصل بين الثقافات والأديان، لما تعطيه للآخرين عن صورة مشوهة عن المسلمين كمهموسين بمعاشرة جثث الموتى (فتوى الزمزمي بجواز نكاح جثة الزوجة مثلا) أو شبقيين يستبيحون أجساد الفتيات القاصرات (الفتاوى الكثيرة عن الزواج ببنات قاصرات) أو جحافل من المكبوتين لا يؤتمنون على العمل في نفس المكتب مع امرأة فوجدوا الحل في إرضاع الكبير (فتوى الدكتور عزت عطية)، ومنهم من أطلق العنان لخياله الديني الخصب فأفتى بجواز الاحتلال، وآخر الفتاوى الغريبة جاءتنا من الخليج وتقول بجواز قتل المرأة التي تقود السيارة في السعودية سدا للذرائع لأن في ذلك فتنة. ولا يسعنا هذا المقال لذكر الفتاوى المبررة والمباركة لخطوات أولي الأمر في قمعهم المستمر لشعوبهم وإخلالهم بأبسط مقومات الحكم التي بلورها العالم الإسلامي الكبير،  أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي، في القرن الحادي عشر والتي شكلت—في نظر الكثير من المهتمين بنظرية الحكم في الإسلام—محاولة فقهية قيمة لـتأصيل التعاقد السياسي بين الحكام والمحكومين في إطار يحدد الشروط والواجبات المترتبة على أطراف هذا التعاقد.

بطبيعة الحال هذه الفتاوى تنم عن شيئين أساسيين: انشغال المؤسسة الدينية في الوطن العربي بقضايا تافهة تشغل بال عامة الناس وتصرف نظرهم عن القضايا الكبرى إلى قضايا صغيرة لا تسمن ولا تغني من جوع. فإشغال العامة بقضايا الزواج والحيض والنفاس، والقضايا الطقوسية في ممارسة الشعائر الدينية، كان وسيظل إحدى الاستراتيجيات الناجحة في احتواء الفكر الديني الحقيقي والحد من قدرته على طرح الأسئلة المؤلمة لأصحاب القرار السياسي. وشهد شاهد من أهلها حين قال إن “سبب اهتمام بعض الفقهاء بفتاوى غرف النوم يعود إلى كونهم آثروا الصمت والسلامة بعدما وجدوا أنفسهم مقصيين”. مقولة تجسد عمق أزمة المؤسسة الدينية الإسلامية في العالم العربي. تسطيح النقاش الديني أدى إلى ملل أهل الفكر الجدي وتخليهم عن بدل الجهد في الرد على جحافل علماء الفروع. ثانيا، استثمار الديكتاتورية لغياب الشجاعة الفكرية والأدبية لدي الكثير من علماء المؤسسة الدينية لإضفاء شرعية دينية على الحكم الديكتاتوري، عن طريق تسويغ تدخلاته لتقويم التحريف الذي تتعرض له العقيدة الإسلامية من قبل “الضالين” أو حرصا على حماية المؤمنين من زعزعة عقيدتهم من قبل الخارجين عن إجماع الأمة. فالحرص على إجماع الأمة تحول إلى مصدر للشرعية الدينية للحاكم المستبد بتزكية من هذه المؤسسة الدينية نفسها التي تخلت عن لعب دورها في نبذ الظلم حيث إن “علماء الدين الإسلامي وظفوا وضعهم الأخلاقي الاعتباري{في الماضي} لعرقلة الإجراءات الاستبدادية للحكام بل قادوا أو أضفوا الشرعية في بعض الأحيان على الثورة ضد النخب الحاكمة” كما يقول خالد أبو الفضل.

فمشكلة المؤسسة الدينية الإسلامية في العالم العربي تنبع من أسباب كثيرة يمكن إجمالها في:
– فقدانها لاستقلاليتها عن المؤسسات الرسمية. إذ تحول الكثير من العلماء المحترمين وهيئات كبار العلماء ومؤسسات الإفتاء إلى أدوات لتفصيل الخطاب الديني على مقاس صاحب القرار السياسي، حيث تحول العلماء حسب خالد أبو الفضل دائما، من “متكلمين، مسموعي الكلمة، باسم الجماهير إلى موظفين يتقاضون أجورهم من الدولة ليلعبوا دورا محافظا على ومشرعنا للأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي”.

– تخليها عن التفكير في القضايا الكبرى التي تهم المسلمين بطريقة تستوعب روح العصر وتستلهم التجارب الناجحة للأمم الأخرى في مجالات واسعة مثل حقوق الإنسان بمرجعيتها الكونية، العلمانية، فصل السلط، الدستورية، ترسيخ ثقافة المؤسسات وحكم القانون، حقوق الأقليات بعيدا عن عقلية الذمة وتأصيل المجتمع المدني. 

– اقتناص الأنظمة الديكتاتورية لكل الفرص المتاحة لتدجين ونسف أي مصداقية للفكر الديني عن طريق تشجيع الفكر السطحي أو عن طريق اضطهاد العلماء المستقلين الذين استطاعوا أن ينأوا بأنفسهم عن النظام الديكتاتوري والحفاظ على مسافة بينهم وبين مؤسساته. 

– انتهازية وارتزاق الكثير من النخب الدينية وانخراطها في مشاريع الاستبداد عن طريق تسويق مشاريعه دينيا—وإن اقتضى الأمر القفز على حقائق التاريخ الإسلامي—وتوفير الفتاوى لتبرير الديكتاتورية. فتاوى تغيرت ونسخت حسب الطلب ومرور الأيام مما حول هذه المؤسسة إلى شريك في الظلم والاستبداد اللذين لحقا بالعرب طيلة نصف قرن من الزمن. فهذه الفئة لم تتورع في حماية الديكتاتورية بكل ما أوتيت من شرعية دينية بغض النظر عن  مناقضتها لتعاليم الإسلام التي تدعي تمثيلها.  

إن هذه الوضعية السلبية للعلماء الرسميين هي التي أدت إلى ظهور فئة “هامشية” من العلماء ساءلت الوضع القائم من منطلق عقلي وديني أدى إلى سحبها للشرعية الشعبية من علماء السلطان. النتيجة بطبيعة الحال هي خلق حالة من التطرف الديني في المؤسسات التي يرعاها هذا الهامش من خلال ترويج خطاب أدى تجذره إلى تقسيم المسلمين إلى فئات متدينة بدرجات متفاوتة وانتشار مظاهر دينية غريبة أحيتها هذه المرجعيات الهامشية التي دخلت في معركة كسر عظم مع الأنظمة سواء بشكلها الجهادي أو الصوفي أو الوهابي. لم تكن هذه الحركات الهامشية لتزدهر لولا تخلي النخب الدينية الرسمية عن النقاش، وانتظارها لتعليمات المؤسسات الرسمية لتصدر الفتوى أو لمجرد الإدلاء برأيها في كافة القضايا التي تهم المسلمين في مجالات مختلفة واكتفى الكثير من العلماء بلعب أدوار ثانوية تخدم مصلحة النظام القائم بدل أخذ زمام المبادرة للتغيير. 

لقد صار من الضروري إخضاع المؤسسة الدينية في شكلها الحالي إلى نوع من إعادة الهيكلة تتماشى وروح الثورات الشعبية في العالم العربي. فنحن بحاجة ماسة إلى مؤسسة دينية ثورية تؤمن بالنقاش وسماع صوت الآخر في كل القضايا في حلبة كبيرة اسمها الوطن. كما أن المؤسسة الدينية في هذه المرحلة يجب أن تعبر وبوضوح عن إيمانها المطلق بالعيش في العصر الحالي، مستلهمة مفاهيم جديدة مثل “المنطق المدني”، الذي طوره الأستاذ عبد الله النعيم، التي قد تشكل مدخلا جريئا ومناسبا لتأهيل الفكر الإسلامي الحديث للقبول بمؤسسات ديمقراطية مدنية تستند على إرادة الشعب وعلى وجود مجتمع مدني يحترم مبادئ المواطنة الحقة. كما أن مفاهيم مثل “سد الذرائع” تحتاج إلى المراجعة أو التقنين لحماية الحريات الفردية والحقوق الجماعية من سوء استخدام السلطات المترتبة عنه. فأهم وأغنى مراحل التاريخ الإسلامي كانت هي التي تمرد فيها الكثير من المسلمين عن القوالب الجاهزة، واعملوا الفكر واجتهدوا، وأدوا ثمن هذا الاجتهاد غاليا لمؤسسة دينية متعصبة أو خاضعة لنزوات السلطان (ابن رشد على سبيل المثال).

ونحن نعيش مفترق الطرق هذا، أصبح لزاما على المؤسسة الدينية الإسلامية أن تؤهل نفسها عن طريق تبني خطاب عصري يؤمن بالحوار ولا يستكين إلى الأجوبة الجاهزة، التي ربما كانت صالحة في الماضي، ولكنها لم تعد كذلك نظرا للتغيرات الجوهرية التي تعرضت لها المجتمعات العربية. هذه التغيرات التي عرت عدم استقلالية  المؤسسة الدينية وتوظيفها المستمر من قبل الحكم الديكتاتوري لتبرير وجوده. كما أن المؤسسة الدينية الهامشية—الغير المعترف بها—مدعوة وبقوة لتقديم مشاريع بأفكار واضحة عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحكم الدستوري، وتداول السلطة، الانتخابات، وسبل تطوير ضمانات تسمح بعدم حصول انتكاسات يوظف فيها الدين لضرب الديمقراطية الناشئة في الوطن العربي، خاصة وأننا لاحظنا مدى قوة وتنظيم هذا الهامش ، المقموع طويلا، من خلال حضوره الجماهيري في كل المظاهرات والاحتجاجات الداعية للتغيير في البلاد العربية من المغرب إلى سوريا وإن بدرجات متفاوتة.

المؤسسة الدينية العربية مدعوة لتصحيح الأخطاء الكثيرة التي وقعت فيها في زمن الديكتاتورية بالنأي بنفسها عن كل المواقف المشبوهة التي اتخذتها في الماضي، تحت الضغط أو سوء تقدير لحركية المجتمع والتاريخ، وذلك عن طريق:

– بلورة ميثاق شرف يلزم المنتمين إليها بالابتعاد عن إصدار الآراء السخيفة والفتاوى العقيمة التي تخلق البلبلة، والإثارة في المجتمع، وتصور المسلمين بمظهر الحالمين بالعيش في العصر الحجري.

– العمل بشكل دءوب على  تبديد الأفكار الرائجة في الغرب عن استحالة التعايش بين الإسلام والديمقراطية وتقديم نماذج من الاجتهادات الفكرية المتأصلة في الفقه الإسلامي لتبين شرعية الحكم الديمقراطي التداولي في إطار مؤسساتي يسمح للجميع بالعيش في ظله تحت سقف المساواة وعلى أساس ومبدأ واحد ووحيد هو المواطنة.

– رد الاعتبار للاجتهاد باعتباره البيئة الحاضنة لحرية الفكر وتداول الأفكار وإبداع أشكال جديدة من أنماط الحكم تساهم في خلق علاقات جديدة بين السلطة والمواطن داخل دولة/نظام سياسي يحترم اختيار المواطنين بعيدا عن الشرعية الدينية. فالدين مسألة شخصية تدخل في نطاق الحريات الفردية التي يجب على الدولة المدنية الدستورية أن تحفظها وترفع احترامه إلى مستوى المقدسات، ولكن دون أن يتحول هذا الحق في التدين إلى مصدر لمنح أو نزع الشرعية عن نظام الحكم لأن هذا بالضبط هو مكمن الخلل خلال الخمسين سنة الأخيرة.

فسلبية المؤسسة الدينية ساهمت بقسط وافر في ضياع خمسين سنة من عمر المجتمعات العربية، لأنها تقوقعت على نفسها وتركت المجال للقوى الديكتاتورية والحركات الدينية الهامشية، الشيء الذي أدى إلى حالة من الإفلاس السياسي في العالم العربي. هذا الإفلاس، استثمرته الديكتاتورية وأسست أنظمة هجينة، فردية في جوهرها، مغلفة بعباءة دينية وقومية وعلمانية، حسب الحاجة، ساهم تخلي المؤسسة الدينية من لعب دورها الشرعي في نبذ الاستبداد في تجذره.

الظروف مواتية الآن للمؤسسة الدينية للقيام بنقد ذاتي لتعيد هيكلة نفسها لكي تتماشى مع روح العصر. فخروج العلماء والفقهاء للتظاهر، في أكثر من بلد عربي، ما هو إلا علامة على وجود هذه الرغبة في الانخراط في العصر والاغتراف من نسيم الحرية الذي هب ذات ربيع على العالم العربي والذي يشكل في حد ذاته عودة إلى الواقع بعد طول انفصام.