فتح أبواب الاجتهاد: 1. نصر حامد أبو زيد
فريد دالماير، جامعة نوتردام، الولايات المتحدة 10 April 2011

بالنسبة للدينيين والعلمانيين الراديكاليين، تخلو فكرة الوحي او الالهام الالهي من اي معنى لأنهم يرون ان كل المعاني مشكلة ومصنوعة من قبل الانسان. انا لا اشاطرهم هذا الرأي (الذي تعد كتابات لودويغ فيورباخ التعبير الاشهر عنه )، ولكنني اتعامل بجدية مع امكانية وجود رسالة الهية او وحي. ما اريد قوله هنا هو ان الوحي الالهي – بغض النظر عن مدى تساميه – لا يمكن ان يكون فاعلا بدون التفسير، بل انه سيتلاشى بدون التفسير. بعبارة اخرى: ان البشر عندما يواجَهون برسالة سماوية ينبغي ان يكونوا في وضع من يرى نفسه عنوانا صحيحا لتلك الرسالة وبالتالي ان يمنحوها معنى في حياتهم. عكس ذلك ستكون تلك الرسالة عقيمة، بمعنى ان البشر ينبغي ان يكونوا قادرين على ان يربطوا تلك الرسالة الالهية بـ”نظام الدلالة” الخاص بهم (تشارلس تايلور)، بـ”منظومة الفهم القبلي” بحسب (غاديمار)، وبـ “لعبتهم اللغوية” بحسب (ويتغنستون). ان البشر، ومن أجل ان يعيشوا، بحاجة لكي يفهموا مايحدث، وفهمهم هذا يصنعه اطارهم الحياتي وابجديتهم المتوارثة.

بالطبع لا يعني ذلك ان الابجدية والممارسات اللغوية لايمكن توسيعها، وان اطر الدلالة لايمكن تعميقها. في الحقيقة ان فكرة “التعلم” في اصلها تقوم على هذا التوسع. ولكن حيثما تم توسيع اطار الدلالة ليصل الى ابعد حدوده، فان الرسالة المفترضة تصبح بلا معنى بل ونمط من الفرض الخارجي او العنف. ان الوحي الالهي بمعناه الصحيح لا يمكن ان يبلغ تلك الحدود او يصبح بعيدا عن متناول المعاني الانسانية. هذه النقطة بمكن توضيحها عبر كلمات موسى حينما اعلن الوصايا الالهية: ” ان هذه الوصايا التي اوصيكم بها اليوم ليست صعبة جدا وليست بعيد عنكم. انها لاتحلق عاليا في السماء بحيث يضطركم الى التساؤل – من يستطيع ان يحلق عاليا الى السماء ويجلبها لنا بحيث نسمعها ونعمل بما تقول؟- كما انها ليست وراء البحر بحيث تضطركم الى التساؤل – من يستطيع ان يعبر البحر ويجلبها لنا بحيث نسمعها ونعمل بما تقول؟ – لكن هذه الكلمة قريبة جدا اليكم، انها في افواهكم وفي قلوبكم ولذلك يمكنكم سماعها والعمل بها “. نفس النقطة طرحت عبر الاسم “اسرائيل” الذي حصل عليه يعقوب بعد مصارعته الملاك الذي ارسله الله، لأنه ماكان ليتمكن ان يتصارع مع الله لأن الله كان متساميا ولا يمكن الوصول اليه. تسميته باسرائيل تعني ان حياة يعقوب قد تم تغييرها عبر هذه اللقاء بين البشري والالهي.

من المهم الآن ان نلاحظ انه في اللقاء بين البشري والالهي لا يقتصر التحول على الانسان فقط (بمعنى ان ادراكه يصبح اعمق واوسع)، بل انه يشمل معنى الالهي ايضا الذي يتحول من الرب السحري القديم الى اله ( او وجود الهي ) يمكن معرفته عبر التجربة الشخصية. نتيجة لذلك، لا يعود المفَسر (بكسر السين) هدفا للسيطرة الخارجية او التضليل الخارجي (ربما عبر رجال الدين)، لكنه/ يصبح شريكا او مشاركا في نقل الرسالة الالهية. بلغة الاصلاح الديني المسيحي / البروتستانتي، التفسير يضعف الميزة الحصرية للنخبة الكهنوتية ويعطي فسحة لـ “كهنوت كوني” يضم جميع المؤمنين. بعبارة اخرى، من خلاله تتم انسنة ودمقرطة الايمان الديني. من هنا تنبع المعارضة الشديدة من قبل النخب الدينية والسياسية لحرية التفسير.

وفقا لذلك، من الواضح ان التفسير ليس مجرد اداة منهجية. وكما توضح من تطور المسيحية (اللاتينية) الغربية، فان التفسير – الى جانب ترجمة النص الديني الى اللغات المحكية – اصبح وكيلا قويا للاصلاح الديني والاجتماعي والسياسي. وكما نعرف ايضا، هذا الاصلاح واجه مقاومة عنيدة من قبل السلطات الدينية المحافظة والارثوذكسية. ولكن المقاومة لم تكن في اي مكان بالشدة التي كانت عليها في الاسلام، حيث اغلق باب “الاجتهاد ” رسميا لحوالي 700 عاما – كما يرى الكثير من المراقبين-. الفترة المعاصرة شهدت ومازالت تشهد جهود مصممة على اعادة فتح ابواب الاجتهاد مجددا وبالتالي اعادة انشاء لقاء بشري-الهي مثمر. عند هذه النقطة اريد ان اجذب الاهتمام بشكل اساسي الى اثنين من الرواد المسلمين اللذين، للاسف، توفًيا هذا العام (2010)، واعني بهما نصر حامد ابو زيد ومحمد عابد الجابري. اود ان تكون ملاحظاتي هدية لذكرى هذين المفكرين.

لقد كنت محظوظا بما فيه الكفاية لأتعرف على هذين المفكرين، فقد كانت المرة الأخيرة التي التقيت بها ابو زيد في ايطاليا، حوالي شهرين قبل وفاته ( في يوليو/تموز 2010). سلوكه الودي الصادق وقلبه المنشرح لفتا انتباهي بشدة. عندما كنا في بيزا تسنى لنا ان نسير معا في وقت فراغنا بالقرب من البرج المائل وقد اخبرني عندها مقتطفات من رحلة حياته الصعبة (التي لم اكن اعرف عنها سوى القليل). بطريقة ما كانت حياته تشبه برج بيزا المائل، فجذوره كانت دائما في بلده مصر ولكنه كان يميل باتجاه مختلف: اوربا. وعلى الرغم مما عاشه من نفي وانقطاعات، الا ان شخصيته ظلت تتمتع بالتوازن والهدوء بشكل يدعو الى الاعجاب. ولد ابو زيد في يوليو/تموز عام 1943 في مدينة صغيرة ليست بعيدة عن القاهرة، وفي سن المراهقة اعتقل مرة وتم سجنه بتهمة التعاطف مع الاخوان المسلمين، لكن ذلك كان مجرد طيش شباب كما ان ذلك الوقت كان زمن ازدهار القومية العلمانية. وفي مدرسته الثانوية تلقى ابو زيد بعض التعليم التقني الذي مكنه بعد التخرج من العمل لمدة قصيرة في مديرية الاتصالات الوطنية في القاهرة. عام 1968 دخل جامعة القاهرة حيث حصل على درجة البكالوريوس في الدراسات العربية (1972) والماجستير في الدراسات الاسلامية (1977). تناولت اطروحته للماجستير دور التأويل في الاسلام. بعد ان استكمل اطروحته سافر الى امريكا وظل فيها لعام واحد (78-1979) من اجل تعميق دراسته في التفسير وتحليل النص الديني.

لقد كانت هذه اللحظة من حياة ابو زيد مهمة في تطوره الفكري كما يتضح في مقابلة منشورة له على موقع NEFAIS.net المصمم للصحفيين المسلمين. في تلك المقابلة تم تذكير ابو زيد بأنه كان يبحث عن كلمة باللغة الانكليزية مرادفة لكلمة “التأويل” وانه التقى في القاهرة حسن حنفي الذي اقترح عليه كلمة “هيرمونطيقيا hermeneutics “، وسُئل ابو زيد: هل كنت تعلم عندها شيئا عن الهيرمونطيقيا وعن هانز جورج غادامير (الفيلسوف الرئيسي في حقل الهيرمونطيقيا)؟، فكانت اجابة ابو زيد: “كلا على الاطلاق، حتى كلمة الهيرمونطيقيا غير مألوفة لدي “.

ولكن حال وصوله الى امريكا شرع ابو زيد بدراسة الهيرمونطيقيا بشكل مكثف وفي تلك المرحلة قرأ (الحقيقة والمنهج) لغادامير بشغف، كما درس ايضا اعمال بول ريكور ومارتن هيدجير – وكذلك ابن عربي. قادته قراءاته الى الوصول الى قناعة مهمة حول الترابط المتبادل بين التقاليد الدينية والفلسفية والثقافية – وهي قناعة نجدها بالطبع عند غادامير وريكور. وكما صرح بشكل واضح في تلك المقابلة: “لا يمكن فهم الفلسفة العربية-الاسلامية بمعزل عن الفلسفة الاغريقية والهندية والفارسية. ان من المستحيل الفصل بين هذه التقاليد الفلسفية والحديث عن فلسفة اسلامية خالصة، بمعزل عن التأثيرات الخارجية”. وربما كان اهم استنتاج توصل اليه ابو زيد من دراسته للهيرمونطيقيا هو الترابط الحتمي بين معنى النص وموقف المفسر او قابليته على الفهم. وهو يصوغ هذا الاستنتاج بشكل حاسم عندما يقول:”هل من الممكن ان نفهم المعنى التاريخي “الموضوعي” للنص؟ ام ان عملية فهم النص مرتبطة بشكل اساسي بدور المفسر؟ هذا هو السؤال الرئيسي للهيرمونطيقيا. وهذا السؤال بالضبط هو الذي يخترق – بصيغ مختلفة – التراث العربي-الاسلامي، منذ بدء التفسير القرآني والتأويل. لقد كان السؤال الموجه للمعتزلة هو: هل من الممكن ان نفهم المعنى الالهي للقرآن بدون ان نمتلك فهما مسبقا للعدالة او وحدة الله؟ اذا ماتعاملنا مع النص القرآني مبتدئين من الافتراض بطبيعته الالهية ولكن بدون ان يكون لدينا فهم مسبق للحقيقة الالهية، كيف يمكننا ان نعرف ان هذا النص ليس كاذبا او خاطئا؟”.

وفقا لنصر أو زيد، هذا السؤال لم يشغل المعتزلة فقط، بل شغل كذلك ابن رشد وابن عربي – وان بطريقة مختلفة. انطلق ابن عربي من هذا السؤال ليطرح قضية ما اذا كان الله كائن ام وجود. تسائل: “هل لدى الله وجود موضوعي بشكل مستقل عنا؟ ام ان هذا الوجود هو ثمرة للتفاعل بين الالهي وبين الذكاء البشري؟”. يقول ابو زيد ان هذا السؤال هو بوضوح سؤال فلسفي، ويذكرنا بهيدجر ومفهومة لـ “الكائن الموجود”. انه ايضا سؤال ابن عربي الذي يتناول العلاقة بين النص وبين العالم او بين النص والكينونة. بالنسبة لابن عربي، “القرآن هو كلمة الله وقد كتبت في كتاب، لكن الوجود هو كلمة الله بالمعنى الاوسع، او انه كلمته الوجودية”. بذلك تصبح نظرية المعرفة “النصية” لدى ابن عربي نظرية لفهم الوجود. يتسائل ابو زيد، “اليس هنالك تشابه، لا اقول تطابق، بين سؤال ابن العربي وفهمه للوجود وبين اعمال هيدجر، وكذلك غادامير؟”.

وفي نفس السياق، يطرح ابو زيد قضية “التراث” الثقافي – الديني واهميته المتواصلة اليوم. كما يفعل غادامير، لا يعامل ابو زيد التراث كشئ ميت ينتمي الى الماضي ويخنق كل فكر ابداعي خلاق، بل كمورد مستمر وغير ناضب، كمعبر عن مفاهيمنا المسبقة التي بسبب من اهميتها تحتاج الى تفسيرها واعادة تفسيرها بشكل متواصل في كل جيل جديد. وكما يلاحظ ابو زيد، التراث الاصيل هو ذلك البعد الذي “يصل الى الحاضر والى المستقبل”. وهذه النظرة تصطدم مع الاتجاه “التقليدي” الصارم كما مع الاتجاه القطعي الراديكالي الذي يزعم ابتكار الحاضر والمستقبل من العدم. يدعي الاتجاه التقليدي ان بالامكان العثور على كل الاجوبة في الماضي وبدون المزيد من التفكير، اما الاتجاه القطعي الراديكالي فيتظاهر بامكانية المضي بدون تراث او تقليد اومفاهيم مسبقة. لقد شهدنا مثل هذا الصراع في التاريخ الغربي الحديث (على شكل “حروب ثقافية ” تزداد حدة باستمرار)، لكنه صراع لا يقتصر على الغرب فقط. بكلمات ابو زيد: “اعتقد ان هذا الصراع ما زال يهيمن على الفكر الاسلامي المعاصر. وهنا يمكن لدراسة اكثر تفصيلية لغادامير ان تساعدنا ربما في تعريف المشاكل الفكرية بطريقة مناسبة اكثر، وبالتالي تسهم في حلها (او على الاقل تخفيفها) “.

هذه القضايا تقودنا حتما الى المسألة المركزية التي وضعتها في مقدمة هذه الصفحات: العلاقة بين الوحي والتفسير. لا يرفض ابو زيد فكرة الوحي لكنه يرفض فهمها كظاهرة خارج الزمان والفهم الانساني. ويقول: “لا اؤمن بوجود نصوص خارج الزمان – وانا افعل ذلك لاسباب دينية”. بعض المسلمين وعلماء الدين يعتقدون ان القرآن هو نص متجاوز للزمان، نص يوجد في العقل الكلي والمتعالي للاله. ربما كان ذلك صحيحا، ولكن كيف يمكننا ان نصل الى هذا العقل؟ فما دام النص مرتبط بالذات الالهية المتعالية، لا يمكننا ان نتحدث عن “الوحي” الذي يعني كشف واتصال. بالتالي فان الله اختار ان “يوحي” كلمته “تاريخيا في القرن السابع بلغة معينة، اي العربية، التي لديها تاريخ سابق للوحي”. لذلك فان الوحي القرآني كان جزءا من تاريخ وثقافة ولغة. يضيف ابو زيد: “منذ ان بدأ الله القادر يرسل الينا انبيائه وكلماته، قرر ان يكون تاريخيا. لقد كان ذلك قرار الهي وليس قراري انا. واذا كان الله قرر ان يكون وحيه الينا تاريخيا، كيف يمكنني ان ازعم بان الوحي ليس كذلك؟ لذلك بقدر تعلق الامر بالقرآن فانا اتعامل مع نص تاريخي، كما ان التأويل او فهم النص القرآني هو ايضا خاضع للشروط التاريخية… فاذا مااراد الله ان يكون (او ان يوحي بنفسه) في التاريخ، كيف يمكنني انا – الكائن التاريخي المتناهي – ان احاول طرده من الزمان؟”.

يجب أن نضيف ايضا ان التفسير البشري، كعملية مقترنة بشروطها التاريخية، لا يمكنه ابدا ادعاء الوصول الى صحيح مطلق. ان كل نص – بما في ذلك القرآن – هو نتاج لمعان متعددة وخطابات متعددة، وبالتالي فان التفسير دائما مايتسم بالتعددية (كما اوضح غادامير)، دون ان يعني ذلك ان التفسير يكون اعتباطيا او نسبويا (لأنه يظل متجها نحو المعنى الاصيل للنص او الوحي النصي).

دعوني اعود الى حياة ابو زيد التي بدأت بها. فبعد فترة اقامته في الولايات المتحدة، عاد الى جامعة القاهرة حيث تلقى شهادة الدكتوراه عام 1981 عن اطروحته حول ابن عربي. بعد عام واحد انضم الى قسم اللغة العربية والادب العربي حيث عمل في البداية كاستاذ مساعد وبعد عام 1987 كاستاذ منتدب. ومنذ ذلك الوقت، دخلت حياة ابو زيد مرحلة “البرج المائل”، ففي عام 1992 بدأ سلسلة نشاطات كان يمكن ان تقود في الظروف الاعتيادية الى ترقيته ليكون استاذ بروفيسور. في ذلك الوقت كان قد نشر 13 كتابا بالعربية وبلغات اخرى، ومن ضمنها (الامام الشافعي وتأسيس الايديولوجية الوسيطة ) و (نقد الخطاب الديني). لجنة الترقيات الجامعية كانت منقسمة حول ذلك، ولكن في النهاية انتصر صوت احد اعضائها البارزين: انه الصوت الذي اتهم ابو زيد بـ “الانحراف الحقيقي عن العقيدة الاسلامية”. وفي مارس/آذار 1993، صادق مجلس الجامعة على القرار السلبي. لكن ذلك لم يكن سوى بداية لمتاعب ابو زيد، فبعد عام واحد تمت مقاضاته بتهمة الهرطقة او الردة وبعد عام اخر اصدرت محكمة استئناف القاهرة حكما ضده. وكان اعلانه “مرتدا” يعني انه لا يمكن ان يظل متزوجا لامرأة مسلمة (اي زوجته استاذة الادب الفرنسي ابتهال يونس). لذلك تم ابطال زواجهما وتطليقهما بحكم قانوني. ورغم ان مجلس جامعة القاهرة قرر بشكل متأخر نقض قراره السلبي السابق بحق ابو زيد، الا ان ذلك كان قليلا جدا ومتاخرا جدا (خصوصا بعد ان هددت احدى التنظيمات الجهادية الاسلامية بقتله وزوجته ). في يوليو / تموز 1995 غادر الزوجان الى مدريد ومن هناك الى هولندا حيث تم الترحيب به كاستاذ زائر في جامعة ليدن.

هذا التحول في حياة ابو زيد كان صادما، لكنه ليس عصيا على الفهم. فقبل كل شئ، حصلت تلك الاحداث خلال مرحلة اشتد فيها القمع الديني والسياسي في مصر، مرحلة طرد فيها الدكتور احمد منصور من جامعة الازهر وتعرض نجيب محفوظ الى طعنة في رقبته من قبل اسلامي متطرف. في حالة ابو زيد كان السبب واضحا: انه تأكيده على التأويل وعلى التفسير القرآني المتحرر الذي مثل تهديدا واضحا للاوتوقراطية الدينية والسياسية التي لم يكن بامكانها التسامح مع هذا التهديد. من المهم ان نتذكر هنا ان ابو زيد لم يطرح هذا التهديد بوصفه لادينيا او علمانيا راديكاليا معاديا للعقيدة الدينية. انه لم يعتبر نفسه ابدا مرتدا او لادينيا، وكما شرح بوضوح في مقابلة اخرى: “انا متأكد انني مسلم، وخوفي الاكبر هو ان يعتبرني الناس في اوربا ويعاملونني على انني ناقد للاسلام. لست كذلك. لست سلمان رشدي جديد، ولا اريد ان يرحب بي واعامل على هذا الاساس. انني باحث، ناقد للفكر الاسلامي القديم والحديث. انا اتعامل مع القرآن كنص اعطاه الله الى النبي محمد”.من المهم هنا ان نلحظ الفرق، فهدف ابو زيد لم يكن الحط من شان الاسلام او تدميره بل فهمه واعادة تفسيره – وهي مهمة اكثر صعوبة بكثير.

لقد كانت حياة ابو زيد في المنفى صعبة – نظرا لتوقه الشديد الى مصر-، لكنها لم تكن بدون فوائد سواء فيما يخص التشريف الذي حضي به في مناسبات عامة او منزلته الاكاديمية. العقد الذي قضاه في ليدن (من 1995 الى 2004 ) اتسم بانجازات اكاديمية بارزة. في ذلك الوقت نشر بعض من اهم كتبه، مثل (النص، السلطة، الحقيقة ) و (الخطاب والتأويل) و (هكذا تحدث ابن عربي ) وكانت جميعها باللغة العربية، كما بدأت تظهر بعض كتاباته باللغة الانكليزية، مثل (صوت في المنفى: تأملات في الاسلام: 2004 )، (اعادة التفكير بالقرآن: نحو نظرية انسانية للتاويل: 2004). ومن بين الجوائز التشريفية التي حضي بها يمكن ان نشير الى جائزة رابطة الكتاب الاردنيين للديمقراطية والحرية (1998) وميدالية حرية العبادة من مؤسسة روزفلت (2002). (وقبل ذلك كان قد حصل على وسام الشرف التونسي عام 1993 ). وفي عام 2004 قبل تعيينه لكرسي ابن رشد للانسانيات والاسلام في جامعة اوتريخت. وبعد عام واحد تسلم جائزة ابن رشد لحرية الفكر في برلين. في ذلك الوقت شارك ايضا في مشروع بحثي حول “التأويل اليهودي والاسلامي بوصفه نقد ثقافي” في Wissenschaftskolleg في برلين. وفي وقت وفاته (باصابة فايروسية ) كان ابو زيد ابو زيد يعمل كأحد محرري الموسوعة القرآنية باجزائها الستة ويعمل على مشروع شامل للتفسير القرآني (باللغتين العربية والانكليزية).

ليس هذا بالمكان المناسب لاستعراض كل اعمال ابو زيد الكثيرة وساقتصر على نصوص قليلة متوفرة بالانكليزية. كتابه الاشهر الذي يمكن القول انه مثل “بصمته” هو (اعادة التفكير بالقرآن: نحو نظرية انسانية في التأويل ). الكتاب يشير بتكرار الى افكار غادامير، والتأكيد في العنوان على “أنسنة التأويل” مرتبط بطريقة معالجته للقرآن ليس بوصفه جوهر بعيد ومتقادم مقفل في اطار العلوية الالهية، ولكن كرسالة موجهة لبني البشر في عوالمهم الحياتية الواضحة. القرآن ليس صوت من بعيد بل انه يظهر هنا كظاهرة حية، كعنوان او خطاب متاح للفهم الانساني، وفي الحقيقة انه قابل للنظر اليه كنمط للـ “تواصل والحوار والجدل” الذي يحفز على البحث عن الموقف الجدلي وعلى القبول او الرفض. ان القرآن، كرسالة او خطاب، يصدر دعوة اجتماعية وتشجيع على التفكر. الدعوة الاجتماعية هي للسعي من اجل العدالة، وهنا يذكر ابو زيد مثالا من التاريخ بدا فيه انه حتى النبي محمد واجه صعوبة في بلوغ مستوى تلك الدعوة، عندما كان مشغولا بدعوة الاغنياء من قريش للاهتمام بالعدالة، في ذلك الوقت جاء رجل اعمى فقير اسمه ابن ام مكتوم الى محمد وسأله النصيحة، لكن النبي الذي كان منخرطا في خطابه دفعه جانبا – غير ان القرآن نفسه انتقد محمد بقوة بسبب هذا التجاهل ( سورة 80: 1-10).

تزامنا مع كتاب اعادة التفكير في القرآن ظهر كتاب جديد لابو زيد ياخذ شكل المذكرات هو (صوت في المنفى: تأملات في الاسلام). ان هذا الكتاب اكثر من كتابات ابو زيد الاخرى يقدم للقارئ التجربة الحياتية ومعاناة المفكر المصري. يمكنني ان اشير فقط الى بعض الفقرات البارزة. يناقش ابو زيد بشكل متكرر همه الرئيسي: منزلة القران كالهي او بشري او كرسالة الهية موجهة للبشر. يلاحظ ابو زيد ان الاسلام الارثوذكسي “اصر دائما على ان القرآن هو كلام الله الازلي وغير المخلوق “، و”لأنه كان موجودا دائما، فانه لم يخلق ابدا”. لكن المعتزلة نظروا الى هذه القضية بشكل مختلف، حيث اصروا على “ان هناك اختلاف بين ماهية الله – كأزلي وعصي على الادراك البشري – و كلمة الله التي يتم خلقها ويستطيع العقل ان يفهمها”. وهنا ايضا، يفضل ابو زيد المعتزلة بالقول: ” اعتقد انه من اجل ان نفهم معنى القرآن، نحن بحاجة الى فهم النص بطريقة مجازية وليس حَرفية. واعتقد ايضا ان من المهم ان نفسر النص من خلال الاخذ بالاعتبار الاطار الاجتماعي-الثقافي الذي استُقبل فيه”.

وربما كانت الكلمة الاكثر ايحاءا ومباشرة موجودة في مكان اخر في منتصف الكتاب، واقتبس الفقرة كاملة هنا لانها تستحق ذلك: “ان موقفي الرئيسي بخصوص القرآن هو انه من اجل ان نجعل الفكر الاسلامي مفيدا، لابد من اعادة الاعتبار للجانب الانساني في القرآن. ان موضعة القرآن ضمن التاريخ لاتعني ان جذور القرآن هي بشرية تماما. انا اؤمن بان القرآن هو نص الهي اوحي به من الله الى النبي محمد عبر وساطة الملاك جبرائيل. لكن هذا الوحي حصل عبر استخدام اللغة وهذه اللغة (العربية) لها جذورها التاريخية. القرآن توجه الى العرب الذين يعيشون في القرن السابع واخذ بعين الاعتبار الواقع الاجتماعي لهؤلاء الناس الذين كانوا يعيشون في الجزيرة العربية آنذاك. والا كيف سيكون بامكانهم ان يفهموا الوحي؟”.يضيف ابو زيد باصرار: “انا اعتقد ان احد اسباب مانشهده من ركود في الفكر الاسلامي هو اننا نشدد على البعد الالهي للقرآن على حساب معرفة خصائصه الانسانية”.

متأملا تجربته الذاتية في كتاب صوت في المنفى، يؤكد ابو زيد مرة اخرى على دعوة القرآن من اجل العدالة الاجتماعية وازالة الفساد والقمع الاجتماعي. ففي فصل حمل عنوان “صلة النظرية بالممارسة” نجد هذه السطور التي توضح الارتباط بين التفسير والفعل: “بغض النظر عن الموضوع الذي يتناوله القرآن… فان العدالة موجودة في جوهره… القيم القرآنية بنيت على مفاهيم الحرية والعدالة – حرية الفكر من أجل اقامة مجتمع عادل”. لسوء الحظ، هذه الدعوة للعدالة والحرية غالبا ما يتم تجاهلها من قبل السلطات السياسية والدينية. بدلا من تحرير الممارسة نجد “اختزال الممارسة على الاتباع الاعمى للتقليد وعلى نسخ الماضي… الذهنية القبلية حية. المفتاح هو الطاعة”. وفي ضوء هذا الاختزال، يرى ابو زيد ان هناك حاجة لاحياء وتعميق ميراث المصلحين الاسلاميين في القرن التاسع عشر كالافغاني ومحمد عبدة. يقول “ان لدينا هذا الميراث، وانا اضع نفسي ضمن دائرته، وبحثي في الدراسات الاسلامية يتركز اساسا على محاولة ايجاد طريقة لدمج الحداثة والتقدم بالفكر الاسلامي”. الحديث عن ميراث محمد عبدة يعني لدى ابو زيد واجب التصدي للظلم في كل مكان، بما في ذلك الظلم الذي يمارسه الحكام الاوتوقراطيين وايضا ذلك الذي يعانيه الفلسطينيون وشعب غزة”. ان الصراع من اجل العدالة ينطوي على الحاجة الى اصلاح المجتمع وكذلك اصلاح الفكر الديني: “اليوم يجب ان لا نقبل بتعريفنا بهوية مزيفة تعبر عن نفسها بالتخلف ومقاومة التقدم تحت ذريعة الدفاع عن الاسلام وعن هويتنا. ان نهضتنا المجهضة تطلعت الى المستقبل عندما كانت تحاول كسر البنى الفكرية العتيقة… ولكي نواصل هذا المسار، نحن بحاجة الى طريقة منظمة في الكلام عن الدين – نحتاج الى خطاب “.

هذه المهمة التي تحدث عنها ابو زيد بتفصيل في (صوت في المنفى) ستقدم مجددا في (اصلاح الفكر الاسلامي: 2006). فقرة واحدة من الفصل الاخير لهذا الكتاب ستكون كافية: “بدون ان نعيد التفكير بالقرآن وبدون ان نعيد استحضار طبيعته الحية من خلال “الخطاب”… لايمكن ان يتحقق التأويل الديمقراطي والمنفتح. ولكن لماذا يجب ان يكون التأويل ديمقراطيا ومنفتحا؟ لأنه معني بمعنى الحياة. اذا كنا جادين في تحرير الفكر الديني من تلاعب السلطة، سواء كانت سياسية او اجتماعية او دينية، ونريد ان نعزز قدرة مجتمع المؤمنين على صياغة “المعنى”، فاننا بحاجة الى تشكيل تأويل ديمقراطي ومنفتح”.

>> 2